قد تجتاحك رغبة جامحة في رمي كل من يشاركك الإعجاب بمفاتنها بالتراب والحجر. قد تغار عليها من السكان الذين يشاركونك التجول بشوارعها، ومن السياح كلما ألقوا بنظراتهم الشغوفة العميقة على تقاسيمها. قد تغار عليها من الزوار والمتجولين، من فرق الفلامنكو التي تطربها في كل حين، من حارسِ قصْرٍ يُذكِرُك بحلول ساعة الرحيل، ومن لباقة مرشد يقضي دقائق جحيمية سوداء طويلة للتغزل بسحر جسمها المُكتنز الجميل.
قد تغار عليها من حارس متحف يحضن كل قطعة بعينيه بخوف وحنين. ومن مرشد لا يستحي من إنهاء جولته معكَ أمام معبر الرحيل، كأنَّهُ يُذكِّرُك أنك لست سوى زائر آتٍ من بعيد، زائر غريبٍ يتجول،يتأمل، يبني حلما ثم يتخلى عنه عازفا لحن رحيله الحزين. عندما تُحب امرأة، ستكتشف لأول مرة أن الشفاه وحدها تحمل اللون الأحمر وأن الكرز رمادي اللون وأن لا رحيق بالعسل وأن الصيف لا يأتي مرة في السنة، بل كل يوم.
أخبرتها عن سكينة الوادي الكبير الذي أطربني بأشعار ابن زيدون والمعتمد بن عباد ولوركا. أخبرتها عن الحمراء،عن ثغري الذي ارتاع من جمالها فتاه عنه كل شيء. |
وعندما تزور الأندلس، ستكتشف بأن العالم رمادي وأن لا وجود للأحمر خارج الحمراء وأنك في قصر إشبيلية فقط تستطيع أن تصبح أميرا دون حفل ولاء. عندما تحب امرأة ما، قد تبحث عن التميز في عينيها، عن إثارتها، أو ربما حتى عن إزعاجها بثقل وغباء لتستشعر وجودك وتلتفت إليك. قد تمازحها بمخارج فكاهية تافهة. قد تغضبها لتتلذذ بالتحايل عليها ومداعبتها ومصالحتها… فبعض النساء يصبحن أكثر سحرا عندما يبكين…
بحثت عن إثارة الأندلس، عن إغضابها فتلذذتُ بنذب بشرتها الرقيقة الناعمة بأظافري .خنقتُ أعشابها بيدي . غرستُ بصماتي بقوة على جدرانها . بعثرتُ ترابها بقدمي . اعترضتُ نسيمها ورياحها .عاركتُ مياهها . زَرعتُ خطوات متثاقلة مدوية صاخبة مزعجة قوية على أرضها . بحثتُ عن تكسير هدوئها، عن إشعال حواسها .. وكلي ثقة أنها ستحضن حماقاتي بحب. وهل للطفل الصغير أن ينزعج لقُبلة أُمٍ تعتصر وجنته بعنف؟ كذلك حبي للأندلس، اندفاع وجنون يلتهب ويتطاير في شرياني، حب هو معذبي وهو الجاني.
أذعتُ لها كل أسراري وخطواتي ولم أستحي من مقاسمتها كل حماقاتي، أخبرتها أن إحساس غربتي قلّ عندما عانقتها، وأن هلال روحي اكتمل في حضنها. أخبرتها عن ملامحي البسيطة التي لم تتوحد إلا فيها، حتى أحمر الشفاه الذي أخجل من وضعه بالشارع، مهما كان خافتا لونه، تجرأت على غير عادتي ووضعته…
أخبرتها عن دمع الحزن الذي فاض من القلب بمسجد قرطبة. عن جوارحي التي نزفت. ويا ليت دماء الجوارح تُجدي فتُغنيني عن ألمي وعن وجدي. ليتها تدفع الأجراس إلى الإعتذار للمآذن. أخبرتها عن جدران قصر إشبيلية التي ترش سعادة مزيفة للغرباء.
قد تغار عليها من السكان الذين يشاركونك التجول بشوارعها، ومن السياح كلما ألقوا بنظراتهم الشغوفة العميقة على تقاسيمها. قد تغار عليها من الزوار والمتجولين.ا |
أخبرتها عن سكينة الوادي الكبير الذي أطربني بأشعار ابن زيدون والمعتمد بن عباد ولوركا. أخبرتها عن الحمراء،عن ثغري الذي ارتاع من جمالها فتاه عنه كل شيء.. تاه عنه البكاء وتاه عنه الإبتسام. أخبرتها عن المواعيد التي عقدتها مع التاريخ، تاريخ غادر آتيه قبل الموعد ليأتيني متنكرا في زي آخر، في أحداث أخرى ودون أن أنتبه يتركني ويمشي.
كانت إشبيلية أول وجهة لي بالأندلس. كانت هاجسي اللذيذ الذي شاركني تدوين أحلام لا تُدوَّن على الورق، أحلام تقتني للماضي تذكِرة، أحلام تستحضر التاريخ من كل قلب: إشبيلية وقلب.. الخيرالدا وقلب.. برج الذهب وقلب.. قصر إشبيلية وقلب.. الوادي الكبير وقلب…
عقدتُ أول مواجهة لي مع التاريخ في حرب أعلنتها ضد الوادي الكبير. وادٍ كسول يتمايل بخمول وتعب. فلطالما شهدت مياهه حروبا دامية وحصارات وحركات تجارية وصخَب. تسكَّعت العين في مياهه لساعات دون أن تعرف السبب.
توقَّظت جذْوَة التاريخ الكامنة في عمق المياه. وأمام مشهد الوادي البانورامي الأزرق المُستكين وبين مارة تتراقص خطواتهم على الرصيف، لفّت الأعشاب الضئيلة التي نمت على الجانبين بجمالها السرّي المحتشم كل صور الذاكرة لتشتري على المياه شكلا مَسرحيا للأحداث الغابرة فانهارت الحدود بين الجغرافيا والتاريخ:
هنا نشطت حركة السفن التجارية الصغيرة.
هنا نشأ ميناء نهري بالغ الأهمية.
هنا التقى المعتمد بحبيبته اعتماد.
هنا حاصر فرناندو الثالث إشبيلية.
هنا وعبر نهر الوادي بدأ في محاصرتها وتطويقها من كل جانب.
هُنا حُرِمَت إشبيلية من وصول المجاهدين لنجدتها وعونها.
هُنا احتدت المعارك بين السفن القشتالية والإسلامية.
هنا في مياه المصب مُنع ورود الإمداد والمؤن إلى أهل إشبيلية لشهور طويلة إلى أن سقطت.
قد تغار عليها من حارس متحف يحضن كل قطعة بعينيه بخوف وحنين. ومن مرشد لا يستحي من إنهاء جولته معكَ أمام معبر الرحيل، كأنَّهُ يُذكِّرُك أنك لست سوى زائر آتٍ من بعيد. |
ثم تتوقف عن التفكير. ففي الصراع، غالبا ما يكون النصر حليف الوادي. فسُكون المياه وجمال المكان وعذوبته تصدُّ الخيال عن التفكير في مكر التاريخ وصراعاته. فتترك الألم يموت لوحده على مراحل. تترُك الحزن ليحزن لوحده. تبيعه لكل المشترين دون مقابل. لتَقِف باستعجال على الجوانب المُعاصرة للمكان التي أعطته قيمة مُختلفة. فالقِيمُ مثل الطباشير تُمحى. في المياه تمحى. وتتغير نكهتها وطعمها بمرور الزمن.
تمتد مراكب سياحية صغيرة على الوادي. وعلى الجانبين تستريح منازل معاصرة بهية الألوان. منازل تُغلق أبوابها بإحكام، فأمام وجوهِ العشاق الشريدةِ المستأنسة لا يفتحُ الناس أبوابهم، وتغض النوافذُ طرفها عن حقائبهم المنسية. في حضورهم يخلع الوادي قيوده، يغني ما يشاء، يحتضر كما يشاء…
ثم تغادر الوادي الكبير لتغوص في أعماق إشبيلية. تتغير الأحاسيس في ثوان معدودات، تتريَّث لتُعيد تنظيم جريانها وصياغة حيثياتها، لتستأنف من جديد رحلة التسكع المُنظَّم في عالم أندلسي مشغول عنك!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.