لطالما كان الإنسان باحثًا عن المعرفة، عن إجابات ما يجهل، وعما يعينه على القيام بمسؤولياته في الحياة، ولكن اليوم نقف أمام غزو من نوع آخر، تحت عنوان دورات تدريبية، بمجالات شتى، على الأغلب غير مجانية، أو هكذا يُعلن عنها، لكن الكثير منها مدعوم من مؤسسات دولية، وتتبع سياسات الجهة المانحة، والمؤسسة المشرفة على التدريب، يظن الباحث عن المعرفة أنها تكفيه مؤونة البحث.
تُسوق هذه الدورات على نطاقين: واسع، وضيق، فكثير من الدورات ضعيفة في مجال الإعلان، إما لضعف الجهة المعلنة أو لعدم ثقة الجمهور بها أو لارتفاع الرسوم أو لمحدودية الوسائل المستخدمة في الإعلان عن برامج التدريب.
يلجأ الشباب للتدريب لرفع فرص القبول في سوق العمل في الدرجة الأولى، وفي الدرجة الثانية تلبية للفضول المعرفي، والذي وإن تعددت وسائل تغذيته اليوم إلكترونيًا، وبجهود ذاتية تعتمد على الشخص نفسه؛ فلا أقوى من التدريب بالاحتكاك في بيئة جديدة مع مدربين جدد وطلبة من غير ذات السياقات التي اعتاد عليها المتدرب، فهي فرصة لاستكشاف عالم جديد، وتوسيع لدائرة العلاقات والمعارف، ومن جهة أخرى فرصة لاختبار مؤسسة التدريب ضمن المعايير التي تهم المتدرب؛ سواء على مستوى المحتوى أو التعامل أو الوقت.
مع كثرة الدورات التدريبية ذات القيمة العلمية الضعيفة إلى حد ما؛ بات الهم الأول للمتدرب هو الحصول على شهادة تفيد بإنهائه ساعات التدريب، ليعزز موقعه في وظيفته، أو للحصول على وظيفة تحت عنوان استعراض الخبرات |
ومع كثرة البرامج التدريبية اليوم، تغدو منصات التعليم الإلكترونية المفتوحة منافسًا جيدًا وإن لم تعترف مؤسساتنا على أرض الواقع بها، وإن كانت هذه المنصات تؤمن مفاتيح معرفية لا أكثر، فإن الدورات التدريبية في كثير منها لا تقدم أكثر من مفاتيح، وحتى تكون استفادة المتدرب عالية فهو بحاجة لعدة أمور؛ منها: قوة المدرب، ومنهجية المحتوى، ومزامنة المحتوى بتدريب عملي، إضافة لجهد المتدرب في البحث والقراءة في مجال التدريب قبل وأثناء وبعد التدريب، ومحاولة توظيفه لما استفاده في واقع حياته أو مؤسسته.
مع كثرة الدورات التدريبية ذات القيمة العلمية الضعيفة إلى حد ما؛ بات الهم الأول للمتدرب هو الحصول على شهادة تفيد بإنهائه ساعات التدريب، ليعزز موقعه في وظيفته، أو للحصول على وظيفة تحت عنوان استعراض الخبرات، ولمن لا يعمل؛ فهو يلجأ إليها كنوع من تعزيز الثقة بالنفس، وليقنع نفسه بأنه يتقدم، حتى تلك العلاقات الجديدة التي ينسجها؛ لا يستفيد منها ما دام لم يستثمرها لتعزز من دوره في المجتمع، ولم تساعده في تسويق نفسه وما يتقنه من عمل.
ثم تنتهي البرامج التدريبية بصورة وابتسامة وشهادة، ويفترق المتدربون، وتحصد المؤسسة ما خصصته من موازنة لإتمام المشروع، أما المؤسسات الذكية فهي توظف الأكفأ من الدورة، وتجري تقييمًا للمتدربين لتوجههم لما يحتاجونه حقًا، فليس المهم فقط أن يقيم المتدرب البرنامج الذي شارك فيه، خاصة إن غابت المهنية عن التقييم تملقًا لمدرب الدورة الذي قد يكون أستاذًا للمتدرب أو زميلًا أو مديرًا له.
المتدرب الذي يبحث عن الجودة أكثر مَن يعاني من أزمة الثقة؛ فمسألة احترام الوقت في بدء الدورة، أو إنهاء البرنامج التدريبي في عدد اللقاءات المعلنة مسبقًا دون تجاوزها كما قد يحصل، أو حين يقدم المدرب كثيرًا من آرائه الشخصية أو يقدم معلومات مغلوطة أو مكذوبة أمام استسلام المتدربين أو اختيارهم عدم الصدام والاعتراض، وحين يكون عدد الساعات المقررة أكبر من حاجة المادة، أمام ذلك كله فلا يجد المتدرب خيارًا أكثر من مجاراة التيار للحصول على ورقة.
تنتهي البرامج التدريبية بصورة وابتسامة وشهادة، ويفترق المتدربون، وتحصد المؤسسة ما خصصته من موازنة لإتمام المشروع |
تلك الأزمة التي نعانيها مع البرامج الدينية، ومع المسلسلات بشتى أنواعها التي تكرر ذاتها وتعتمد محاور لا تحيد عنها، تتكرر أيضًا في برامج التدريب المختلفة، فتصبح بلا مفعول، وأكثر ما يعزز هذا التوجه إلى جانب مصادر التعليم المفتوحة؛ برامج اليوتيوب المختلفة، التي تتضمن التدريب والملاحظات وغير ذلك، فتصبح الدورة للشهادة والعلاقات أكثر من المعرفة.
ويبقى السؤال: ما الذي حققته هذه البرامج التدريبية كلها على أرض الواقع: على مستوى المؤسسات وعلى مستوى الأفراد؟ فمؤسسات لا تنهض بالتدريب، وفرد يشبع ذاته فتضخم، وآخر يتعلم اليوم ثم يعود على أبواب البحث والكتب وسؤال المختصين وإن كانت أم أو جدة أو صديق ليرشده فيما يحتاج، أما المجتمع فالعنصر المفقود في معادلة التغيير، ومعادلة المصلحة التي تُنسج بها قصص الإعلانات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.