شعار قسم مدونات

حين تتخاذل العقول تستباح الأرض

blogs شطرنج

يوم بعد يوم تتجلى حالة التصحر الفكري التي نعيشها في أمتنا، وضعية تؤكدها النزعة الفردية التي أصبحت تميز عمل من يوصفون مجازا في أوطاننا بالنخبة العلمية، نخبة طغت على كتابتها، كلامها وآرائها الانطباعية والعاطفية، مما جعل المنهاج العلمي يختفي من واقعنا لتختفي معه الوسطية، الاعتدال، تقبل النقد والرأي الآخر، لتحل محلها القاعدة المشهورة "لا أريكم إلا ما أرى" التي كرست بدورها الطائفية، الانبطاحية، العنصرية، العنف والإرهاب الجسدي والفكري.

إن المنهاج العلمي أداة لتناول الأحداث والمواضيع الشائكة، بهدف جعل أي كلام يصدر عن الباحث مؤسسا على مجموعة من المراحل والخطوات الواضحة، يستطيع من خلالها الوصول إلى نتيجة أو حكم، فيحدد موضوعه بإشكالية ويؤطره بمجموعة من الفرضيات لينطلق منها باحثا عن الحقيقة التي يعتبر الوصول إلى جزء منها إنجازا، فإن أخطأ أو زاغ كان بالإمكان تحديد مكمن الخلل وسبب الخطأ، لكن هذا أصبح مغيبا، في عصر تسارعت فيه الأحداث بشكل جعل الأكاديمي يغرق في تتبع أعراض لن تزول مالم يتم القضاء على الداء، والكل يعلم أن محاربة البعوض مستحيلة مالم تجفف المستنقعات، ومع هذا لا يزال الأكاديميون يتكلمون عن البعوض، أنواعه، تكاثره، الأمراض التي ينقلها، ولا أحد يلتفت إلى المستنقعات التي أغرقتنا.

المتابع للشأن العالمي يعلم أن معظم ما يعيشه العالم من أحداث ونوازل، ليس إلا سيناريوهات أعدت بإحكام قبل سنوات في مخابر بحثية من مختصيين وأكاديميين غربيين لا نكاد نسمع بأسمائهم لكن لمستهم خلقت الفارق فيما نعيشه اليوم

إن العالم الرقمي ساهم في سرقة الأكاديميين من وظيفتهم الرئيسية، فتحولوا إلى نجوم بلاطوهات وسائل الإعلام وصفحات الجرائد ومواقع التواصل الاجتماعي، لطرح آرائهم وأفكارهم وتحليلاتهم لما يحدث، فاستهلكوا وتشتت فكرهم وضاعت أهم مميزاتهم، وهي القدرة على التعمق في مآلات الأحداث وفهم أغوارها، لاستقراء المستقبل على ضوء ما هو حاصل اليوم، وعوض هذا أصبحوا مجرد متحدثين يلوكون كلاما يشبه المتداول في المقاهي وعلى أرصفة الطرقات، وهو ما يجعلني أحيي القرار الشجاع الذي اتخذه الدكتور عزمي بشارة حين أكد عزمه التفرغ لممارسة العمل البحثي الأكاديمي رغم أنه نجم ساطع في سماء الإعلام العربي.

المتابع للشأن العالمي يعلم أن معظم ما يعيشه العالم من أحداث ونوازل، ليس إلا سيناريوهات أعدت بإحكام قبل سنوات في مخابر بحثية من مختصيين وأكاديميين غربيين لا نكاد نسمع بأسمائهم لكن لمستهم خلقت الفارق فيما نعيشه اليوم، من وعد بلفور في 1917 إلى هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن الحرب السوفياتية في أفغانستان ونشوء القاعدة، إلى احتلال أمريكا للعراق وظهور داعش، لست أتحدث هنا على نظرية المؤامرة ولا مسوقا لها ولا مهووسا بها، لكنني مؤمن أن الأمة التي لا تملك مشروعا لا بد أن تكون جزءا من مشروع أمة آخر، وهو ما حصل لنا.

لا يمكن لعاقل اليوم أن ينكر أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تتعرضان لمشروع كبير، يخدم مصالح أطراف ضد أطراف، ويحقق أرباح لجهات وخسائر لجهات أخرى، وهي سنة الأمم فوق الأرض، كما أن الواضح والجلي تلك العشوائية المنظمة التي تميز الأحداث الحاصلة حولنا، مما أدخلنا في فوضى خلاقة أخلطت أوراق المحللين وشوهت صورة الأكاديميين بل وأعجزت عقولهم عن التفكير والوصول إلى نتائج بعد دخولهم في لعبة التكهنات والتوقعات.

لا حل اليوم إلا عودة كل من يؤمن بالعلم إلى مخبره وانعكافه على دراسة وتحليل ما هو حاصل للخروج بحلول علمية عملية لما نعيشه، حلول ستزيد نجاعتها إن تظافرت الجهود وتوحدت من خلال مخابر مشتركة يجتمع فيها الاقتصادي والسياسي والإعلامي والعسكري، ورجال الدين وغيرهم، لفهم ما نحن فيه واختيار سبل مواجهته، والسعي لبناء مشروع متكامل ينقذنا مما نحن فيه.

الضعف ليس قدرا والقوة ليست معجزة، بل الأصل في التغيير التفكير والتخطيط والعمل الجماعي لا الفردية والارتجالية، وهما أمرين لا يكونا إلا بخلق مراكز بحثية تجمع نخب الدول لتكوين نواة الانطلاق نحو البناء على أرضية صلبة

فأوروبا في 1945 كانت مدمرة، وكان الفرنسيون يرون الآلمان مجرمين قتلة، لكن كيف هو حالهم اليوم، وحتى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان هادئا سلسا ولو كان الأمر عندنا لقامت حروب، الولايات المتحدة الأمريكية التي تفرض على العرب اليوم دفع الأتاوات، كانت تدفع جزية تعادل 20 بالمئة من ميزانيتها للجزائر في 1795 وفق معاهدة السلام والصداقة التي ضمنت من خلالها أمن سفنها التي تمر عبر البحر الأبيض المتوسط في عهد الرئيس جورج واشنطن.

 

فالضعف ليس قدرا والقوة ليست معجزة، بل الأصل في التغيير التفكير والتخطيط والعمل الجماعي لا الفردية والارتجالية، وهما أمرين لا يكونا إلا بخلق مراكز بحثية تجمع نخب الدول لتكوين نواة الانطلاق نحو البناء على أرضية صلبة، أما بقاء الحال على ما هو عليه، سيبقينا تائهين متخبطين متنافرين متحاربين على نقاط اختلاف تعادل سواد نقطة في ورقة بيضاء، كلام قد يراه البعض ضربا من الجنون أو حلم منظر لا يعي الواقع المجنون، لكنني متأكد أنه السبيل الأوحد ليعود القطار إلى السكة، وإن كان السبيل معلوما فالكيف مجهول، وهو ما قد تجيبنا عنه المخابر التي ستنشئ، أما الإيمان بإمكانية حدوثه فتشبه إيمان من عايش دخول المغول لبغداد وانهيار الدولة العباسية، أتراه كان سيؤمن بأن المماليك هم من سيحررون الأمة من درن المغول؟، إن الله على كل شيء قدير لكن هل أنتم عاملون؟ .

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان