المنشد سميح الزريقات .. وفي صوته أمل تغالبه الأنات .. حين جاء العيد .. مضى .. يبحث فيه عن لقاء .. عن وجوه ، عن مرايا .. عن شموع ، عن حكايا .. عن عيون ذابت .. من فرط ما أدمعت فيها الحنايا.
هذه الكلمات السابقة جزء من بكائية حزينة جاءت منذ نحو سبع سنوات، في ألبوم أناشيد أطيار السنونو الذي ربما يعرفه كثير من شباب الإسلاميين في مصر والشام وغيرهما.
وقد وجدتها تقفز إلى ذهني ونحن نستقبل عيدا جديدا يشبه أعيادنا الكثيرة التي ذقنا فيها السعادة بطعم الألم، والفرح بطعم الجراح، واللقاء المصاحب للوداع، والمستقبل المثقل بالماضي، ورأينا فيها صغار حيّنا الذين أوشكوا يموتون، وفي الشاشات كبار لا يكاد الموت يعرف لهم طريقا.
أعياد جربنا فيها نشوة السكران الذي لا يستطيع نسيان مصائبه، ورقصنا فيها رقصة المذبوح يظن الرائي أن بنا لعبا وسرورا، أو أن مسا من الجن قد أصابنا، وما بنا إلا نزيف قِطَعٍ من أبداننا تُقَطَّعُ ونحن أحياء فلا الموت يريحنا مُسرعا، ولا المقطوع يهون علينا أمره فننساه !
أعياد كثيرة عرفناها وجربناها، وعرفتنا وجربتنا، ومللناها وملتنا، لكنا ما هجرناها ولا هجرتنا، بل تعود في كل حين تذكرنا وتوجعنا وتسخر من جراحاتنا، أو تمر غير مكترثة لأمرنا، فلا هي أسعدتنا ولا أسعدناها، ولا أحبتنا ولا أحببناها، لكنها بكل وفاء مستمرة في العود ونحن مستمرون في محاولة التظاهر بما يناسب العيد من مظهر وحال.
يأتينا هذا العيد وفي أمتنا ما تعرفون من الأمور التي يسوء ذكرها كما يسوء تجاهلها، لكن رعاية حق العيد علينا توجب الأولى منهما، ويتكرر من كثيرين التمثل بأبيات المتنبي الذائعة التي قالها صبيحة عيد خرج فيه من مصر فارا بنفسه وبما تبقى من كرامته المهدرة فيها حين قال:
عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ *** بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ
أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ *** فَلَيتَ دونَكَ بِيداً دونَهَا بِيدُ
ومع ذلك فالبشر والبشارة وإظهار الفرح برغم الصعوبات هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم في العيد، فإن الدنيا دار فتن وبلاء، ولا يخرج منها إلا ما هو لائق بطبعها، والذي يأتي على الأصل لا يتعجب منه عاقل، ومن هنا فيجب علينا فهم طبيعة الدنيا وأنها لا تدوم على حال، ولا خلود لشيء ولا لأحد ولا لشعور فيها، فلا سعادة تدوم ولا شقاء، لذلك يأتي العيد بعد العيد ليذكرنا أن تجديد الفرح برغم البلاء واجب وضرورة للاستمرار، وأن العاقل من لم يشتد فرحه بالنعمة لأنه يعلم أنها زائلة، ولا يشتد غمه بالمصيبة لأنها زائلة كذلك، فيفرح هونا ما ويحزن هونا ما ويحب هونا ما ويبغض هونا ما وتستمر به الحياة يقلبها وتقلبه حتى يلقى الله تعالى.
وقد روى الإمام البخاري رحمه الله حديثا عجيبا في صحيحه، باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة:
اجعلوها فرصة للسعادة، والأمل، والخير، والسلامة، والرضا، واليقين، والاطمئنان، ودف تجمع الأحباب، وإذا كنا لا ندري هل نعيش إلى الغد أم لا، فإننا نعلم أننا اليوم من الأحياء، وهذه من النعم العظيمة واجبة الشكر، فلنتحدث بنعمة الله علينا |
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: اشتكى ابن لأبي طلحة، قال: فمات وأبو طلحة خارج، فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئا ونحته في جانب البيت. فلما جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام؟ قالت: قد هدأت نفسه وأرجو أن يكون قد استراح، وظن أبو طلحة أنها صادقة. قال: فبات فلما أصبح اغتسل فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما كان منهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما، قال سفيان: فقال رجل من الأنصار: فرأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن.
هذا الموقف الجليل الجميل لهذه المرأة الصالحة الذكية زوجة أبي طلحة الأنصاري رضي الله تعالى عنها وعنه، ثم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وتعقيبه على الموقف بأن يبارك الله لهما في ليلتهما، كأن هذا هو ما أخذ منه المصريون مثلهم الشعبي المعبر عن فهم عميق للحياة وطبيعتها وقوانين حركتها واستمرارها إذ يقولون: "الحي أبقى من الميت".
نعم؛ الحي أبقى من الميت لأن الله تعالى أذن باستمرار الحياة وتطورها بموت واحد وبقاء آخر، فأما الميت فقد أفضى إلى ما قدم ونسأل الله تعالى أن يرحمه وأن يقبله في الصالحين، أما الحي فله دور وغاية وهدف ورسالة ومسؤولية ومهمة يجب عليه أن يتحملها وأن يعمل عليها حتى ينتهي دوره هو الآخر وينتقل الأمر إلى من بعده من الأحياء وهكذا.
إن الأعياد فرصة للتجدد، وموسم تبدل الأرض فيه ثيابها وجلدها وشكلها وزينتها حتى لا تبلى وتنتهي قبل أن يأذن الله بذلك، فلا تحولوها إلى بكائيات وأحزان وذكريات كئيبة فما لهذا شرعها الله ولا بذلك أمر ولا به إذن.
بل اجعلوها فرصة للسعادة، والأمل، والخير، والسلامة، والرضا، واليقين، والاطمئنان، ودف تجمع الأحباب، وإذا كنا لا ندري هل نعيش إلى الغد أم لا، فإننا نعلم أننا اليوم من الأحياء، وهذه من النعم العظيمة واجبة الشكر، فلنتحدث بنعمة الله علينا، ولنشكره بالقول والعمل على ما أعطى وأنعم، ولنجعل العيد فرحة كما أراد الله وأمر، ولنترك الأحزان جانبا مهما عظمت فإن لها يومها، وإظهار الحزن في أيام السرور مخالف للهدى وليس منهج الصالحين المصلحين الناجحين المفلحين في الدنيا والآخرة، ولنقل مع القائل: عيد بكل سرور جئت يا عيد *** فنحن في مسمع الدنيا أناشيد.
فالحمد لله رب العالمين على كل عطاءه ولطفه وبركاته، كل عام أنتم بخير، تقبل الله منا ومنكم، عيد سعيد بإذن الله برغم أنف الظالمين المفسدين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.