فنحن عندما ندخل لأي مرحلة جديدة في حياتنا نبدأها بخوف وتوجس، فما إن يمر الزمان على مسيرنا في هذه المرحلة حتى يتحول هذا التوجس إلى تآلف وحب وتعلق ولربما إبداع، والقصص أكثر من أن تروى في هذا منذ اللحظة التي يتركك فيها والدك على مقعدك الدراسي الأول، وحتى انتهاء دراستك على مقاعد الجامعة، إلى أول وظيفة، وأول مولود، وأول كل فرصة أو تجربة جديدة. ومن مظاهر ضعفها أيضاً قصور علمها واطّلاعها فكم من جديد اُكتشف يفنّد قديما مُصدَّقا وكم من حقيقة ظُنّتْ ولمّا قارعها الزمن بالحجج والبراهين تناثرت!
النفوس حالمة، غالباً ما يقتصر نظرها على مصالحها اللحظية، عجولة تناظر قطف الثمرة على الدوام، وبالتالي إن شرّعت هي كل أمور حياتها فإنها ستسعى للاستمتاع اللحظي، غافلةً عن النتائج بعيدة المدى!
أما المظهر الثالث من مظاهر قصورها فهو في كون النفس متأثرة بمن حولها خاضعة للأكثرية وإن كانوا على باطل، حيث إنها تميل دوما نحو مصادر الأمان والقوة، وبالطبع تعدّ الكثرة والسباحة مع التيار أكثر أمنا وسهولة من مخالفة سطوتهما، فإنّ كثرة الأتباع توهم المتبِّع بأنه الحق. قال تعالى: (قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). القصد من ذكر هذه الصفات الهشة للنفس البشرية هو بيان حقيقة ضعفها وقصر نظرها وعدم قدرتها على تكوين مرد ومشرّع موجّه لحياة الإنسان، فإن كوّنت مرتكزاً تقف عليه، سيكون هشا وإن بدت للناظر صلابته، ينهار كلما جابهته الحياة بتجربة جديدة. فإن كانت تخشى كل جديد "على بساطته"! فهل من المعقول أنها تستطيع أن تحكم على الأمور الغيبية وتضع منهجاً يضبط حياة الإنسان على مرّ العصور والأزمان!
نظرة النفس البشرية للحياة هي نظرة مطلقة فضفاضة تحدُّها النظرة الشرعية المقننة من الله جلَّ شأنه، فإن صبّت هذه النظرة نارها على التشريعات الحياتية للمجتمعات البشرية، فإنها ستقلب الحقيقة وستلوث مكنوناتها. |
(2)
إنّ خطورة ما وصلنا إليه كمجتمع بشري تكمن في إنكار حاجتنا إلى تشريعات إلهية، ولو نظرنا نظرة خاطفة للواقع لوجدنا أن التشريعات التي لربما كنا سابقا لا نلتزم بها، ومع ذلك كنّا نعترف بتقصيرنا وبمخالفتنا لها، باتت الآن طريحة فراش الإهمال وربما الإنكار تماما، وصلنا لمنحى خطير مفادُه في إنكارنا التام لحاجتنا لهذه التشريعات بالأصل، وهذا أحد نواتج التنازلات المتكررة، والتفلّتات المتدرجة في ميدان محاسبة النفوس وصدقها.
وقد تطرق لهذا كل من الشيخ عبد العزيز الطريفي في كتابه (العقلية الليبرالية في رصف العقل ووصف النقل) تحت فصل باسم (إدراك نهايات الأفكار)، والشيخ إبراهيم السكران فرّج الله كربه في كتابه (مآلات الخطاب المدني) تحت عنوان (قانون المتوالية الفكرية).
يقول الشيخ عبد العزيز الطريفي: "إن السوء على سبيل التدرج اليسير البطيء لا يدرك". وفي هذه المقولة توصيف دقيق لتتابع تنازلاتنا في الحياة التي ربما تبدأ بالتساهل ببعض الأحكام الشرعية إلى أن تصل إلى التفلت الكبير من كل أمر شرعي. يقول سبحانه وتعالى في سورة البقرة: (لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)، صدق سبحانه عندما وصف طريق عمل الشيطان مع الإنسان بالخطوات، فلا يبدأ الشيطان مع الإنسان بما يريد أن يصل إليه، بل يتدرج معه إلى أن يصل مبتغاه.
ومن الأمثلة على درج التفلت البطيء ما حدث بمصر من دعوات تحرير المرأة، فكانت أولى الدعوات المطالبة في نزع النقاب فقط، وبعد مرور مائة عام احتفلت زوجة رئيس مصر بمرور مائة عام على ذلك، ثم تتابعت الدعاوى التي تطالب بتحرير المرأة لتحررها من قوامة الرجل، وبحقها من الزواج بأربعة رجال وغير ذلك مما لا يقبله عقل حتى كحقها في زواج الشواذ أو بالفخر في أن تحمل اسم أم طفل لأب غير شرعي! لا أعتقد أن قاسم أمين الذي بدأ بالمطالبة بهذه الدعاوى أنه توقع أن الأمور ستصل بدعواه إلى المطالبة بأشياء تخالف لب العقيدة الإسلامية.
(3)
وهُنا يمكننا الدخول في النقطة الأهم من هذا المقال، والتي تعتبر استنتاج ما جرى الحديث عنه في الأعلى، وهي أن نظرة النفس البشرية للحياة هي نظرة مطلقة فضفاضة تحدُّها النظرة الشرعية المقننة من الله جلَّ شأنه، فإن صبّت هذه النظرة نارها على التشريعات الحياتية للمجتمعات البشرية، فإنها ستقلب الحقيقة وستلوث مكنوناتها.
مهما تكبّرنا وادَّعونا أننا مكتفين بذواتنا لا نحتاج لمشرّع ومقنن لحياتنا، سنبقى في الواقع ضُعَفاء نشعر في قرارة أنفسنا بتلك الحاجة العميقة إلى أن نركُن إليه كلما سنحت لنا فرصة بعيدة عن أنظار الناس. |
إن تحكَّمت نظرة النفس البشرية للحياة بموازين التشريعات فإنه ستعمل على اضطراب موازين الحياة، فالحق أن تعلو الشريعة نظرة الإنسان لا العكس. وإن كنت تفكر الآن بأن من حقك أن تحاكم الشريعة أو أن تنظر فيها سأقول لك نعم لم تطالب شريعة سماوية قط من قبل كما طالب القرآن الكريم الإنسان بإعمال عقله! ولكن إعمال عقلك ذا يكون في بحثك عن الله، في بحثك عن سر وجودك. لا في رفع أحكام النفس فوق أحكام صانعها، وهي التي تحمل من عوامل الضعف ما تحمل، وقد تحدثنا عن هذه العوامل فوق في النقطة الأولى والثانية من المقال.. وإن كنا نريد أن نبسط الفكرة، فهي تبدو كما لو أن آلة في ركن ما في منزلك تخبرك أن دليل الاستعمال الذي وضعته أنت لا يصلح لتشغيلها! علينا أن نعلم جيداً أن النفس أضعف وأهزل من أن تصنع مرّد تُشرّع به أحكام لحياتها لتبقى في طور الأمان والاطمئنان.
ما أوردناه في بداية المقال من شواهد على خور النفس وغيرها كثير مما لم نذكر كفيل ليجعلنا نؤمن بأننا ضعفاء محتاجين حقيقةً إلى رب خالق ليس كمثله شيء يعلم ما تنطوي عليه نفوسنا فوضع لها ما يعينها ويحفظها. ومن أبرز مظاهر ضعف النفس كما ذكرنا هو قصر قدرة النفس على معرفة أنها سائرة في سلَّم التنازلات داخل ميدان الأحكام الشرعية والتشريعات الإلهية إلى أن تصل لدرجة الكفريات من غير أن تعي ذلك.
مهما تكبّرنا وادَّعونا أننا مكتفين بذواتنا لا نحتاج لمشرّع ومقنن لحياتنا، سنبقى في الواقع ضُعَفاء نشعر في قرارة أنفسنا بتلك الحاجة العميقة إلى أن نركُن إليه كلما سنحت لنا فرصة بعيدة عن أنظار الناس.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.