بلادي هَواها في لساني وفي دَمي ** يُمَجِّدُها قلبي ويدعو لها فَمِي
ومَن يَظْلم الأوطان أو ينسى حقَّها ** تَجِأه فنون الحادثات بأظلمِ
وما يَرْفَع الأوطان إلاَّ رِجَالها ** وهل يَتَرَقَّى الناس إلاَّ بِسُلَّمِ
وَجَدَ ذالك أفضل الخلق أجمعين صلوات ربي وسلامه عليه، حين قال لِمَكَّة في هجرته عند حدودها (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَّبَّكِ إِلَيَّ)، تم لمَّا هَاجَر إلى المدينة المُنَوَّرة واسْتَوْطن بها أحبَّها وألِفها كما أحَبَّ مَكَّة المُكَرمة، بل كان يَدْعو أن يرزقه الله حُبها، (اللهم حَبب إليْنا المدينة كحبِّنا مكة أو أشد، وعن أَنَس إبن مَالك قال كان رسول الله (إذا قَدِمَ المدينة من سفر فأبْصَر دَرَجَاتِ المدينة أََوْضَعَ نَاقَته أي أسرع بها وإذا كانت دَابَّةً حَرَّكَهَا).
يَنْبَغِي لنا جميعاً مَعْرفَة حُب الوطن وحُسن الانتماء إليه معرفة دقيقة، معرفة مسؤولة وأن حُب الوطن بالمعاني والتَّصَرُّفات وليس بالمظاهر والتفاهات، حُب الوطن قيمة تظهر على السلوك ليس ادِّعَاء، حُب الوطن أعمق من شعور عابر أو شِعار، أغلى من النفس، الوطنية وحُسن الانتماء أن يَحرص الإنسان على عدم تَشْوِيه بَلَدِه، وأن يكون في المُقابل حريصا على رَفْع صُمْعَتِها بالحق، والبحت عن وسائل تَمَيُّزِها من خلال أفعاله وتَصَرُّفاته، كما يَنْبَغِي للمواطنين القَاطِنِين الذين يَسْتَظِلُّون بنعمة الوطن وأَمْنِه الوَارِف، أن يُعَظِّموا هذه النعمة في أعينهم بالنظر إلى اللاَّجئين، إلى المُشرَّدين، إلى الغُرَبَاء وإلى البُعداء عن أوطانهم.
الهوية الوطنية: هي عكس الهوية الذاتية، نسميها كذلك الهوية المجتمعية، هي شخصية مجتمعية واحدة بمعنى أدق الجميع يشعر بأنه يمتلكها أي يمتلك هوية واحدة، أنا وطَني إذن أنا جزء من هذا المجتمع. |
ينبغي أن يعرف الناس ويُقدِّروا نعمة الله عَزَّ وجل بالوطن، وآخرون قد حُرِمُوا هذه النعمة، فهم يتوقون إليها ويَنْتَظِرُونَها ويَنْظُرُون إليها، حُبُّ الوطن والاعتزاز بالانتماء إليه ليس شيئا خارجا عن نِطاق الاعْتِيَّاد بل إنه تعبير عن حُب صادق مُتَّصل لا ينقطع أبدا واعتزاز راسخ وعمل بلا كَلَل، شعور بِيَد المِنَّة للوطن ودَيْنٌ مُسْتَّحق للوفاء والولاء، مظاهر الوطنية الحقة بناء دؤوب وسَعْيٌ أكيد وارتقاء بالعِلْم وإحسان وإتقان وإخلاص في العمَل، المواطنة الحقة مراقبة لله في كل شيء، المُواطَنَة الحَقَّة انْتِماء لا الْتِوَاء.
ليس من المواطَنَة الحقيقية والانتماء الجاد للوطن حُب إشاعة الفوضى والتفرقة والعنصرية والقبلية، ولاَ إفساد أَوْ تخريب للمرافق العمومية، أَوْ العبت بالمقدرات الوطنية، أَوْ مخالفة أنظمة وقوانين البلد، ليس من المُواطَنة تغليط الرأي العام ونسج أحداث خَياليَّة من أجل زرع الكره والحقد والتفرقة، لِتَقْسيم المُقَسَّم، كيف يدعي حُب الوطن من لا يرى منه إلاَّ الهَنَات، ولا يقف منه إلاَّ على الجُروح، لا تَرَاه مُثْنِيًا على الوطن أبدًا، إنما على هَنَاتِه وعَوْراته وعلى عيوبه، تماما كما جَسَّده هذا البَيْت الشَّعْري:
لا تَغْتَرب عن وَطَن واحْدَر تَصاريف النَّوى *** أَماَ تَرَى الغُصْن إذا ما فارق الأصْلَ ذَوَى
لمَّا نتحدث عن مفهوم المُواطَنة والوَطَنِيَّة وعن الوَلاَء والانتماء وعن الهوية الوطنية، فإننا نَقِف عَند مفاهيم جِدْ متداخلة، لأنه في العلوم الاجتماعية والسلوكية لا يوجد تعريف شامل جامع مانع لكل هذه المفاهيم، من أجل تقريب المعنى من أذهاننا وتوضيح الفكرة أكثر سوف نضع إشارات لهذه المفاهيم كلها.
أَوَّلاً: الوطنية: كلمة مُشْتَقَّة من الوطن بمعنى المسكن الذي نُقِيم فيه، مَوْطِن الإنسان ومحله، الوطنية هي تَمَسُّك بالوطن، الوطنية هي الانتماء والولاء المُطْلَقْ لهذا الوطن، الوطنية هي امْتِلاك مَشاعِر الحُّب والإخلاص والفخر تِّجاه هذا الوطن، الوطنية هي ارتباط بالأرض بالعادات والتقاليد اعتزاز بتاريخ الوطن وأمجاده، إذن الوطنية مجموعة من الوِجْدَانْ والشُّعور والانفعالات تجاه هذا المكان أي هذا الوطن.
ثانيا: الهوية الوطنية: هي عكس الهوية الذاتية، نسميها كذلك الهوية المجتمعية، هي شخصية مجتمعية واحدة بمعنى أدق الجميع يشعر بأنه يمتلكها أي يمتلك هوية واحدة، أنا وطَني إذن أنا جزء من هذا المجتمع، لا أقف عند هويتي الذاتية أو الفرعية أو القَبَلِيَّة، بِمعنى أَدق ليس مِنَ الإيمان التَعَصُّب للانتماء القَبَلِي المحدود الذي يُصبِح حالة مَرَضِيَّة، بَل التَّمَسُّك والانْصِهار في هوية واحِدة مشتركة بين كافة أطياف المجتمع.
قال أهل الأدب إذا أردت أن تعرف الرجُل فانْظُر كيف تَحِنَّتُهُ إلى أوطانه وتَشَوُّقه إلى إخوانه وبُكاؤه على مَا مَضَى مِنْ زَمَانه، المَحَبة للأوطان والانتماء للأُمة والبُلْدان أمْر غريزي وطَبِيعة طَبَعَ الله النفوس عليها. |
ثالثا: الانتماء: شعور وِجْداني يَتَوافَق مع هذا الشُّعور اعتقاد راسخ وإحساس دائم مرتبط بالمكان كما أنه سلوك مُفَّعَّل على أرض الواقع.
رابعا: الولاء: عند هذا المفهوم تبدأ منظومة قِيَّمِيَّة أُخرى فيها الوفاء، الإخلاص، المناصرة والتضحية، الولاء عاطفة تِلْقائية وقناعة داتية، يَتَبَنَّاها الفرد في قلبه، في داخله وفي وِجْدانه، ينتج عنها حُبّ وإخلاص شديدين، يبقى المفهوم الخامس والأخير وهو الأكثر أهمية على الإطلاق.
خامسا: المُواطَنَة: تجمع ما بين الهوية الوطنية وما بين الشعور الوطني، وتجمع بين الانتماء وبين الولاء، هي أيضا علاقة اجتماعية، بالإضافة إلى كل هذا هي حقوق وواجبات، والقضية الأهم والأخطر هي أن المواطنة علاقات وقانون وسيادة قانون ودستور وتشريع ولوائح ونُظُم، واحترام لهذه القواعد والدساتير والنُّظُم، مظاهرها مشاركة تطوعية، بمعنى يَتَنَمَّى الإحساس عند الإنسان بالمشاركة التطوعية، التزام بالهوية المجتمعية، حماية للممتلكات العامة كجزء من قِيَّمِهِ الاجتماعية، احترام الرأي والرأي الآخر، احترام الثقافات الفرعية، احترام الوطن ورموز الوطن والمقدسات والدفاع عنها، المتخصصين في علوم الاجتماع يَجِدون أن هذه المظاهر هي مُحَدِّدَات قِيَّمِيَّة يكسبها الفرد عن طريق ما يُسمَّى بالتَّنْشِئَة الاجتماعية، قِيَّمْ بل منظومة قِيَّمْ كلما تعززت هذه القِيم عندنا حققنا المواطنة بل المواطنة الصادقة.
قال أهل الأدب إذا أردت أن تعرف الرجُل فانْظُر كيف تَحِنَّتُهُ إلى أوطانه وتَشَوُّقه إلى إخوانه وبُكاؤه على مَا مَضَى مِنْ زَمَانه، المَحَبة للأوطان والانتماء للأُمة والبُلْدان أمْر غريزي وطَبِيعة طَبَعَ الله النفوس عليها، حِين يُولد إنسان في أرض ويَنْشَأ فيها، فيشرب من مائِها ويتنَفَّس هواءها ويَحْيَا بيْن أَهْلِها فإن فِطْرته تربطه بها فيحبها ويُوالِيها، ويكفي لِجَرْح مشاعر إنسان أن تشير بأن لا وَطَنَ له، وقد اقترن حُب الأرض بِحُب النفس في القرآن الكريم، قال الله تعالى (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) (النساء 66)، بل ارتبط في موضع أخر بالدِّين، قال الله عَزَّ وَجَل (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة 8).
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.