يعيش الفرد وسط متغيرات كثيرة، لعل أخطرها الانقلاب الحاصل على منظومة القيم الأخلاقية التي ترعى شؤون الناس وعلاقتهم بين بعضهم البعض. ومما لا شك أن ما نشهده من تشرذم اجتماعي، ونفاق سياسي، وأزمات اقتصادية مميتة، يعود في أساسه إلى غياب القيم الإنسانية عن العلاقة الاجتماعية، هذه القيم التي تبني ولا تهدم، تؤسس ولا تفكك، تفتح أفق المستقبل على علاقات مترابطة، بدلا من أن تغلق نوافذ الماضي والحاضر على مشاهد واقعية، يذبح فيها الطفل والده في وضح النهار دون وازع ديني أو اخلاقي أو حتى اجتماعي.
هناك مثل شعبي نردده دوما "الدني تغيرت"، لكن حقيقة الأمر أن الأفراد هم الذين تغيروا، فمثلا ضع صخرة في مكان معين واتركها دون تأثيرات خارجية، وعد إليها ستجدها كما تركتها، لم تتغير ولم تتبدل بل بقيت محافظة على رسمها الهندسي، مهما تبدلت معالم الطبيعة من حولها بفعل الإنسان أو الكوارث الطبيعية. ففلسفة التغيير في الجوامد خارجة عن إرادتها، هي تحتاج دائما لعامل خارجي يغير في معالمها، أما الإنسان الذي تؤثر فيه العوامل الخارجية بنسب متدنية جدا، فلسفة التغيير عنده مرتبطة به أولا وأخيرا، وهذا ما تؤكده الآية الكريمة: "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّه لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَة أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ". وفي هذا دلالة على أن التغيير على مستوى المجتمع يبدأ من ذات كل فرد ليمتد فيطال الجماعات.
ما الفائدة من التطور الصناعي، والتجاري، والزراعي، إن كان المجتمع في حالة طلاق تامة مع القيم الأخلاقية؟ إن كانت العلاقات الاجتماعية تحولت بفعل الإنسان إلى مجموعة من المصائب والنوائب يتحاشها الفرد ليل نهار؟ |
ما الفائدة من هذا الكلام؟
هذا الكلام يساعدنا للتأكد أن ما حل بمجتمعاتنا إنما هو نتيجة ما زرعت أيدينا، وليس نتيجة ما زرعه سوانا في حقلنا. نحن الذين أسسنا لمرحلة اللاقيم، اللاأخلاق، اللاإنسانية، عندما تركنا جوهر الإنسان جانبا وتبعنا أهواءنا ومصالحنا الخاصة، أو بالأحرى عندما سرنا خلف الغريزة، وزحفنا نحو المال نجنيه بأي طريقة لنضمن ممارسة الشهوات بشتى ألوانها.
أصبح اكتساب المال جوهر وجودنا، وإطفاء لهيب الشهوة أقصى أمانينا، فكيف لمجتمع تقوده الغريزة وتوابعها، إن لا تخرق سفينته ليغرق في وابل من المدلهمات التي لا يخرج منها أي نور يضيء كالقناديل سهرات ليالينا؟ إننا قوم نكثر من الكلام ونقتصد في الأفعال، وفي هذا مقت كبير "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ"، وبهذا تتحول منظومة القيم إلى مجموعة من الشعارات الزائفة التي نحتفظ بها في مخيلتنا المصابة أصلا بالعجز والتلف.
ولأننا نعيش في زمن الانقلابات يمكن القول أنه كما في السياسة كذلك في المجتمع، هناك انقلاب وانقلابيون وحماة الانقلاب، أما المنقلب فهو الإنسان، والانقلابيون هم جماعة الناس، وحماة الانقلاب مصالح كل فرد منا. أما الضحايا فلا تعد ولا تحصى، حيث أن كل ما هو حركي في هذا الكون هو ضحية ومصاب في صميم وجوده الإنساني.
إن مقياس تقدم المجتمعات يجب أن يكون في بدايته ونهايته، مدى التزام هذه المجتمعات في تطبيق القيم الإنسانية، فما الفائدة من التطور الصناعي، والتجاري، والزراعي، إن كان المجتمع في حالة طلاق تامة مع القيم الأخلاقية؟ إن كانت العلاقات الاجتماعية تحولت بفعل الإنسان إلى مجموعة من المصائب والنوائب يتحاشها الفرد ليل نهار؟ إن كانت العلاقات الاقتصادية مبنية في الأساس على الغش وأكل مال الغير دون حق؟ كل هذا يدعونا إلى القول أن لا صلاح لمجتمع ما إلا بصلاح أخلاق أفراده: "صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوم النفس بالأخلاق تستقم".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.