شعار قسم مدونات

نظرات في تخليص الإبريز

blogs البحث فى مكتبة
"تخليص الإبريز في تلخيص باريز" هو عنوان لكتاب ألفه المفكر المصري رافع رفاعة الطهطاوي بعد عودته من باريس بعد دورة تكوينية تلقاها طلاب مصر إبان الاستعمار الفرنسي لبلاد الكنانة، واصفا من خلاله كل صغيرة وكبيرة أثارت انتباهه أثناء مقامه هناك. 
بعد حملة بونا بارت على مصر، أصيب العالم العربي والمسلم بصدمة لم يستفق من شدتها لحد اليوم، حيث وقف المسلمون أنذاك على البون الشاسع بين العتاد العسكري والتقني عند المستعمر الغربي وما وصلت إليه النهضة الغربية من تطور وتقدم في  جميع المجالات، وما هم عليه من تخلف وانحطاط، وهم الذين كانوا يظنون أنفسهم شعب الله المختار بإسلامهم، متناسين أن الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة ويخذل الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة.

وتعتبر هذه الزيارة التي قادت رفاعة رافع الطهطاوي إلى اكتشاف أسرار باريس، بعدما عين من طرف أستاذه حسن العطار كمشرف ليرافق البعثة التعليمية المتكونة من 40 طالبا مصريا لفرنسا لتعلم العلوم والوقوف على المناهج التعليمية الفرنسية، زيارة تاريخية وقف من خلالها الطهطاوي على عوامل نجاح وتقدم فرنسا ثقافيا وحضاريا وعلميا، ولم يكتف رفاعة الطهطاوي بمهمة الإشراف الديني على البعثة بل دفعه شغفه بالمعرفة وحب الاكتشاف إلى تعلم أبجديات اللغة الفرنسية وهو لا يزال على ظهر السفينة الحربية المتوجهة نحو فرنسا رفقة الطلاب المصريين.

لم يكن الرجل يعلم بأن تماديه في مدح الحضارة الغربية سيجعل منتقديه يتهمونه بالانسلاخ عن الدين والانبهار ببلاد الكفر، فرد عليهم بأنه يجب التمييز بين الغرب الحضاري والثقافي وبين الغرب السياسي والديني.

بمجرد أن دخل رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا لم يخف الرجل انبهاره بهندسة العمران، وطريقة تعامل الرجال مع النساء، كما تفاجأ بالمساواة بين الأغنياء والفقراء أمام القانون، وهو في نفس الوقت والحال كان يتأسف على ما وصل إليه حال المسلمين من تقهقر وتخلف، ولم يكن الرجل يعلم بأن تماديه في مدح الحضارة الغربية سيجعل منتقديه من أمته يتهمونه بالانسلاخ عن الدين والانبهار بحضارة "بلاد الكفر"، فرد عليهم بأنه يجب التمييز بين الغرب الحضاري والثقافي وبين الغرب السياسي والديني، ولا عيب لو نقل المسلمون علوم الغربيين إلى بلادهم، أما معيار الكفر والإيمان لم يعد مقياسا للتصنيف يتماشى مع الواقع الحالي.

لم يستطع رفاعة الطهطاوي الشغوف بالمعرفة، المحب للإصلاح، الراغب في الجديد، الداعي إلى الإحياء والتجديد أن يمنع نفسه من البحث فانكب على الدرس والتحصيل والقراءة والترجمة، وتحول الإمام الفقيه إلى دارس يتعلم ويبحث، وتحول إمام البعثة إلى أنجب المبعوثين. ولما رجع إلى الوطن أدرك ما يحتاجه البعث والنهوض فتبنى حركة الترجمة المنظمة، وأنشأ مدرسة الألسن، وبعث حياة جديدة في التعليم والصحافة.

وقد تناسى منتقدو رفاعة الطهطاوي أن الحضارات السابقة وصلت إلى ما وصلت إليه من تقدم وازدهار بفضل انفتاحها على علوم ومعارف الحضاراة الأخرى: فالحضارة الإسلامية تطورت علميا بفضل ترجمة كتب ومجلدات الحضارة اليونانية مما جعلها ترقى بعلوم الفلك والطب والفلسفة، ثم بعد تخلفنا أخذ الغرب من الحضارة الإسلامية ما أراد من العلوم وطوروها ووصلوا إلى ما هم عليه اليوم من تقدم في جميع المجالات، وهكذا كلما تخلفت أمة جاءت أخرى وأخذت المشعل من بعدها. وهذه هي سنة الله في خلقه يعز من يشاء ويذل من يشاء إلى أن يبعث الله من في القبور.

الإصلاح الحقيقي يبدأ بتحقيق العدالة بين الناس دون محاباة لأحد، هذا هو أساس وجوهر الإصلاح. نعم العدالة وليس المساواة وشتان بين المفهومين، فالقانون الوضعي الغربي يسعى إلى تحقيق المساواة بينما تهتم الشريعة الإسلامية بتحقيق العدالة.

رفاعة الطهطاوي واحد من بين العشرات من المفكرين الذين حاولوا تغيير واقع الأمة الإسلامية آنذاك أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو وغيرهم ممن صدموا بتفوق الغرب، فمنهم من دعا إلى نسخ علوم ومناهج الحضارة الغربية في البلاد الإسلامية مع الحفاظ على مبادئ الدين الإسلامي، ومنهم من ذهب أبعد من ذلك متهما الدين الإسلامي بكونه سبب تخلف المسلمين وتأخرهم.

منذ ذلك التاريخ ومحاولات الإصلاح بالعالم العربي والإسلامي تتخبط في مستنقعات الفشل والتبعية، من خلال تجريب من حين لآخر لبرامج مستوردة لا تتماشى مع البيئة والخصوصية المحلية، الإصلاح الحقيقي يبدأ بتحقيق العدالة بين الناس دون محاباة لأحد، هذا هو أساس وجوهر الإصلاح. نعم العدالة وليس المساواة وشتان بين المفهومين، فالقانون الوضعي الغربي يسعى إلى تحقيق المساواة بينما تهتم الشريعة الإسلامية بتحقيق العدالة.

تطور الأمة ونهوضها لا يتحقق فقط بالاهتمام بعلوم الدين والشريعة، بل لا بد من الاهتمام بالعلوم الأخرى ولعل ندرة العلماء الموسوعيين أو عدمهم في بعض البلدان هو من الفتور الذي أصاب عموم الأمة الإسلامية في العلوم وغيرها. فإذا استيقظت الأمة من سباتها وانجلى عنها كابوس الخمول، وتقدمت مظاهر حياتها وظهر فيها فطاحل علماء الدنيا من رياضيات وفلسفة وطبيعيات وظهر المبتكرون والمخترعون عند ذلك يتنافس علماء الدين مع علماء الدنيا فيظهر المجتهدون وفقهاء الواقع الذين يكيفون الواقع ليتأقلم مع نصوص الشرع، وهكذا يتحقق التكامل التشريعي والعلمي ويصبح كل منهما خادما للأخر، وهذا بطبيعة الحال لن يتحقق إلا بالحكم العادل الساهر على مصالح العباد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.