شعار قسم مدونات

حفلة الموت

مدونات - السجن

في لُجّةِ الغياب وهيبته تَشكَلت صُورهم الدامية في المخيلة.. ودوت أصوات صراخهم في طبول الأذن.. أَخال دُجى الليل قد أعمى أبصارهم.. وجعل في أعماقِ النفسِ غصة.. تُرى أينَ هُم.. وفي أيِّ السراديب الرّطبة المتآكلة يقطنون.. ما دَعواهم؟ تنطلق الصرخة مدوية من ثغر أحدهم أن أنجِدون.. لمَ لا يجيبون.. لمَ لا يسمعون.. لرُبما خَيرُ ما يُقالُ في ذاكَ الوقت.. ربِّ ارجعون! 

لا أصِفُ حالَ موتى في القبور يعذبون.. ولا أتحدث عن عذاب الجحيم.. لَرُبما الأجدَر بأن يوصَف بالجحيمُ الدنيويّ.. السجون العربية! استهجن كلّ فعلٍّ إجراميٍّ لا أساس للرحمة فيه يُلقى مِن عَربيّ ويتلقاهُ عَربِيٌّ آخر..! خلالَ قراءتي للعديد من الكتب التي تتحدث عن أصنافِ وألوانِ العذاب التي يتلقاها العربيّ في سراديب التحقيقات في السجون، استنتجت أن هؤلاء الثلة الهائلة المهولة من المحققين قد دُرّبوا تماماً لممارسة هذا الفعل التكتيكيّ.. ليسَ هذا وحسب.. بل وتمّ انتزاع بقايا ما يسمى بالرحمة من أفئدتهم الخاوية..

أستنكرُ إن كانت هذه هي الوظيفة التي يُسجن الناس لأجلها.. خلال بحثي في القانون الألمانيّ.. وجدتُ أن هدف السجن الأساسيّ هو تمكينُ المساجينِ من عيش حياةٍ يتحمّلُ بها مسؤولية اجتماعية خالية من الإجرام فورَ خروجه من السجن، والأمان في المجتمع لا يتحقق بفصل المذنبين من المجتمع بل بإعادة دمجهم في المجتمع بنجاح.. ولكني متأكدة الآن أن ما يحصل في السجون العربية عكس ذلك تماما..

 

لا أدري إن كنا اليوم في مجتمعاتنا نرى أي نوع من العدل! لعلّ المشكلة الأساسية التي تكمن في السجون العربية وما يتبعها من أساليبٍ همجية مُتبعة في التحقيقات هي السجن وراءَ تُهمٍ سياسيّة

في العالم العربي من كل 100 سجين يخرجوا من السجن ويعودوا إلى المجتمع، 60 منهم يعود ليرتكب الجرائم ويعود للسجن مرة أخرى.. في النرويج من كل 100 سجين يخرج للمجتمع 20 فقط منهم يعودوا للسجن مرة أخرى.. وللسجين النرويجي الحق في التصويت.. ويخضع لتدريب مهني في أي مجال يحبه داخل السجن.. كما وتقوم الحكومة النرويجية بالتأكد من أن سجناءها يعاملون بطريقة حسنة في السجن..

صالة بلياردو.. سوبر ماركت كبير.. صالة ألعاب رياضية لك أن تدخلها أنّى شعرت بالملل.. غُرف ألعاب لك ولأطفالك.. مركز لرفع الشكاوى عن أي معاملةٍ سيئةٍ قد تتلقها من الموظفين.. أنت لست في مدينةِ الألعاب.. ولست في وسطِ مدينة تَعجُّ بالحياة، أنت في سجن كوبنهاغن الدنماركيّ.. نعم أنت في السجن!

 

في المقابل في سجن تدمر في سوريا على سبيل المثال تُركل يومياً من العاملين والمجندين.. تُستعمل أبشع وسائل التعذيب التي لا يمكن للمرءِ أن يتخيلها على الإطلاق.. يروي الدكتور إياد سعيد في رواية يسمعون حسيسها للدكتور أيمن العتوم الكثير من هذه المشاهد.. أن تُعدم أمام أبنائك.. أن تُلقى بجسدك العاري على أرضيةٍ ملأى بحطام الزجاج، أن تجلد على بساط الريح.. أو أن تعذب بالدولاب والخازوق وأشياءْ أخرى، أن تفقد قدرتك على الإنجاب !.. أن تقلع أظافرك.. أن تفقأ عيناك.. وأشياء لا تحتمل الذكر على الإطلاق..

كلما استشعر الناس أنهم في مجتمع عادل كلما زاد الأمن في هذا المجتمع وقلت الجريمة، وكلما استشعر الناس أنهم مظلومين كلما زادت احتمالية الإجرام فالأمن نعمة تدوم بالعدل وتزول بالظلم

ويُذكر أنّ أفضل البلاد تعاملاً مع المجرمين وأقلها جريمة هي هولندا، وهنالك أربع أسبابٍ أدت لانحدار الجريمة فيها، هي استخدام أحكام الخدمة المجتمعية بدلاً من السجن، وتقليل مدة المحكوميات إذ أن متوسط مدة المحكوميات في أمريكا هي ثلاث سنوات بينما في هولندا سنة واحدة، والاعتماد على الغرامات كعقوبة، والمراقبة بأساور ال GPS، واستخدام ال CCTV وهي كاميرات توضع في الطرق العامة مربوطة مع مراكز الشرطة تمكنهم من مراقبة الطرقات، ووقف أي أمرٍ مريب قد يحدث في الطريق كسرقة سيارة أو اعتداءٍ أو حتى رمي النفايات على قارعة الطريق!

في النهاية المقالة تتلخص بمعادلة طردية بسيطة كلما استشعر الناس أنهم في مجتمع عادل كلما زاد الأمن في هذا المجتمع وقلت الجريمة، وكلما استشعر الناس أنهم مظلومين كلما زادت احتمالية الإجرام. الأمن نعمة تدوم بالعدل وتزول بالظلم.. ولا أدري إن كنا اليوم في مجتمعاتنا نرى أي نوع من العدل! لعلّ المشكلة الأساسية التي تكمن في السجون العربية وما يتبعها من أساليبٍ همجية مُتبعة في التحقيقات هي السجن وراءَ تُهمٍ سياسيّة.. هو ينتمي للتنظيم الفلاني، هو أهان الملك، هو قال كلمة الحق وقائل الحق اليوم يُقتل. 

في الواقع هذه مقارنة بسيطة للمعاملة الإنسانية التي يتلقاها المساجين في الدول الاسكندينافية.. والدول العربية الإسلامية..! وإنه لمن المؤسف أن نرى تعاليمَ الإسلام تطبق هناك ولا أثر يدل عليها هُنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.