شعار قسم مدونات

الكاتب الساذج والحسّاس

مدونات - الكتابة

لسنواتٍ مضت لم أجد تفسيراً لما يسمى "حبسة الكاتب"، التي كثيراً ما عانيت منها أمام الورقة التي يتحداني بياضها، ولوحة المفاتيح في الجهاز اللوحي وهي تدغدغ أصابعي في محاولة للتخلص من هذه الحبسة التي عانى منها كثير من الكتاب في رحلات الإبداع التي أمتعت البشرية.

لكنني وجدت هذا السؤال الصعب يتراجع أمام تفسير بدا بالنسبة لي منطقياً ومشبعاً لرغبتي في الحصول على إجابة مقنعة، عندما تسنى لي الحصول على كتاب "الروائي الساذج والحساس" للروائي التركي أورهان باموق، الذي ترجمته ميادة خليل، وصدر عن دار الجمل في بيروت عام 2015م، وهو مجموعة من محاضرات باموق المتعلقة بالرواية ألقاها في جامعة "هارفرد" عام 2009م، قدم فيه مجموعة من الإجابات على أسئلة مهمة؛ منها كيف نقرأ الرواية؟ ومن هو القارئ الساذج والقارئ الحسّاس؟ ماذا يدور في خلد الكاتب عن القارئ؟ وكيف يخطط لروايته؟ وما هو محور الرواية؟ وغيرها من الأسئلة التي أراها تنطبق على أصناف الكتابة الأخرى.

وأصارحكم هنا أن السؤال الأصعب بالنسبة لي كان -وربما ما يزال- ليس ماذا يدور في خلد الكاتب عن القارئ، بل ماذا يدور في خلد القارئ عن الكاتب؟ وماذا سيضيف الكاتب لقارئه، ولاسيما إذا كان قارئاً ذواقاً، بل ماذا سيضيف الكاتب على قمم الجبال من الإبداع الفكري والأدبي الذي قدمه آلاف الكتاب للبشرية منذ فجرها الأول إلى يومنا هذا؟!

وبالعودة إلى كتاب باموق فإنه يضع مشاعر القارئ الساذج والحساس في مقابل مشاعر الروائي الساذج والحساس، والفارق بينهما برأيه هو أن القارئ والروائي الساذج هو الذي لا يولي الأساليب والنواحي الفنية للرواية عنايةً كبيرة، بعكس الروائي والقارئ الحساس أو العاطفي أو المتأمل كما يسميه، فهو يولي اهتماماً كبيراً للأساليب الروائية والطريقة التي يعمل بها عقل القارئ، وهذا تماماً ما يحدث معي عند مواجهتي للفراغ؛ للمساحة البيضاء التي علي أن أملأها.

شعرت بعد مطالعتي لأحد الكتب أنني أشبعت فضولي في التعرف على الدهاليز السرية لأسماء مهمة من الروائيين والكتّاب الغربيين، ولا سيما في بداياتهم المتعثرة، وقدرتهم على النهوض والاستمرار، حتى حفروا أسماءهم في جذع شجرة الإبداع الإنساني

يقول باموق أيضاً أن المصطلحين "الساذج والحساس" ليسا من اختراعه، وإنما هما من مقال للشاعر الألماني شيلر، فرّق من خلالهما بين شعراء عصره، وهذا برأيي ينسحب على كتاب زماننا. فأنا عندما أنظر لبعضهم، أغبطهم على غزارة إنتاجهم، وشجاعتهم في طرح أفكارهم، ونشر كتاباتهم، إلا أنني بعد اطلاعي على هذا الكتاب عرفت السبب، فبطل العجب!

أعادني تفريق باموق بين القارئ الساذج والحساس لقراءة كتاب لماذا نقرأ؟ لطائفة من الكتاب والمؤلفين، جلُّهم من مصر، وفيه وجدت ما يمكن أن يتكامل مع الإجابة عن سؤال لماذا نكتب؟ والذي جاء عنواناً لكتاب آخر تسنى لي مطالعته قبل أسابيع، قدمته بثينة العيسى، ومجموعة من المترجمين العرب ضمن مشروع "تكوين" للكتابة الإبداعية، والكتاب مجموعة من المقالات والمقابلات أعدتها ميريدث ماران مع مجموعة من الكتّاب في شتى الأصناف الكتابية للإجابة على أسرار الكتابة ومصادر الإلهام الخاصة بهم، وقد شعرت بعد مطالعتي للكتاب أنني أشبعت فضولي في التعرف على الدهاليز السرية لأسماء مهمة من الروائيين والكتّاب الغربيين، ولا سيما في بداياتهم المتعثرة، وقدرتهم على النهوض والاستمرار، حتى حفروا أسماءهم في جذع شجرة الإبداع الإنساني الضخمة، وحصدوا جوائز مهمة في بلدانهم، وعلى مستوى العالم.

استطعت من خلال مطالعة الكتابين "الروائي الساذج والحساس"، و"لماذا نكتب؟" أن أفتح نوافذي لخيوط الإبداع التي تملأ الفضاء، بعدما وجدت تفسيراً لهذه الأزمة التي عشتها لفترات طويلة متقطعة، وقلت لنفسي فليكن هذا المقال إعلاناً لمرحلة جديدة في حياتي، أُشهد فيها الكتّاب الذين عشت معهم سنوات الأسئلة الصعبة أنني تعلمت منهم الكثير، وأعدهم أنني سأهزم الفراغ الذي كنت أخشاه، ولوحة المفاتيح التي تنتظر أصابعي كي تطرق عليها حروفاً من الضياء في زمن الظلم والظلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.