شعار قسم مدونات

عُلماء الدّنيا وعُلماء الآخرة

blogs - شيوخ دين
إنّ تنازلات أدعياء العلم عن مبادئهم والتّخلي عن منهج الحقّ المنوط بهم، والسّكوت عن الباطل، بل تسويغه بفتاواهم وخطبهم وتصريحاتهم لتجعل الأسف يتملّك أفئدة المؤمنين، والحزن يُهيمن على كلّ منتسبٍ بصدق لهذه الأمّة. لذلك ارتأيتُ أنّه من الواجب عليّ أن أطرح الكسل والخمول وأتتبع بعض أخبار وجهاد كثير من العلماء الذين يتمسّح بهم هؤلاء البلاعمة، تذكيرًا لهم أولا، وتحفيزًا للشباب الذي تعقد عليه الأمّة الكثير من آمالها، وقد تجمّع لديّ كثير من أخبارهم في هذا الباب.

لكن في هذه المقالة سأكتفي بذِكر خمسة علماء لا يعرفهم كثير من النّاس ففيهم الكفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وكما قال عقيل بن علّفة حين قيل له لمَ لا تطيل الهجاء فقال: حسبُك من القلادة ما أحاط بالعُنق، ومن السِّوار ما أحاط بالمِعصم. 

وقد تعمّدت ألا أذكر قصصًا لمشاهير العلماء لأنّها معروفة ومتداولة، كالإمام أحمد، وابن تيمية، والعزّ بن عبد السلام، والنّووي.. وغيرهم…

– ذكر ابنُ خَلِّكَان في وفيات الأعيان عن شُعيب بن حرب الإمام الجليل أنّه قال: بينما أنا في طريق مكة، إذ رأيتُ هارونَ الرّشيد، فقلت في نفسي: قد وجبَ عليك الأمرُ والنهيُ، فقالت لي نفسي: لا تفعل فإنّ هذا رجل جبّار ومتى أمرته ضربَ عُنقك. فقلت في نفسي: لا بدّ من ذلك. فلما دنا مني صِحتُ: يا هارونُ، قد آذيتَ الأمّة وأتعبتَ البهائمَ، فقال: خذوه.. ثمّ أُدخلت عليه وهو على كرسي وبيده عمود يلعب به. فقال: ممن الرّجل؟ فقلت: من أفناء الناس. فقال: ممن ثَكِلَتك أمّك؟ قال: من الأبناء. قال: وما حملك أن تدعوني باسمي؟ فقلتُ: أنا أدعو الله فأقول: يا الله، يا رحمن، وما يُنكَرُ من دعائي باسمك، وقد رأيتُ الله سمّى في كتابه أحبَّ الخلق إليه محمدًا، وكنى أبغضَ الخلق إليه أبا لهب. فقال أخرجوه.

كان علماء الآخرة يفترشون الحصير؛ ويلبسون الخَشِنَ من الثّياب، ويسكنون مساكنَ متواضعة لا فرق بينها وبين بيوت الفقراء، لكنّهم كانوا مخلصين؛ قَوَّالين للحقّ تخافهم الملوك والأمراء.

– كان حُطيط الزيات ممن تعلّقت قلوبهم بطاعة الله تعالى واشتُهر عنه أنه كان صوّاما قوّاما قارئًا للقرآن، دارسًا للعلم.. فجيئ به إلى الحَجّاج بن يوسف الثقفي، فلما دخل عليه، قال: أنتَ حطيط؟ قال: نعم… سلْ ما بدا لكَ، فإنّي عاهدت الله عند مقام إبراهيم عليه السلام على ثلاث خصال: إن سُئلتُ لأصدقنَّ، وإن ابتليتُ لأصبرنَّ، وإن عوفيتُ لأشكرنَّ. قال الحجّاجُ: فما تقول فيَّ؟ قال: أقولُ فيك أنّكَ من أعداء الله في الأرض تنتهكُ المحارمَ وتقتل بالظُّنة. قال: فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؟ قال: أقول إنّه أعظمُ جُرمًا منك، وإنّما أنت خطيئة من خطاياه… فأمر الحجّاجُ أن يضعوا عليه العذابَ، فانتهى به العذابَ أن شُقَّقوا له القَصَبَ، ثمّ جعلوه على لحمه وشدّوه بالحبال ثمّ جعلوا يَستلُّونَ قصبةً قصبةً، حتى انتحلُوا لحمَه، فما سمعوه يقول شيئا، فقيل للحجّاج أنّه في آخر رَمَق. فقال: أخرجوه: فارموا به في السّوق. قال راوي القصّة: فأتيته أنا وصاحب له، فقلنا له، حُطيط، ألكَ حاجة؟ قال: شربة ماء… فأتوه بشربة ماء ثمّ استشهدَ، وكان عمره ثماني عشرة سنة رحمه الله.

– وفي سير أعلام النّبلاء ج 16 ص 148: الإمامُ القُدوة الشّهيد، أبو بكر، محمد بن أحمد بن سهل الرّملي، ويُعرف بابن النّابلسي…قال أبو ذرّ الحافظ: سجَنَه بنو عُبيد، وصلبوه على السُّنة، سمعتُ الدَّارَقُطْنِي يذكره، ويبكي، ويقول: كان يقولُ، وهو يُسلخ: ( كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) الإسراء:58.
قال أبو الفرَج بنُ الجوزي: أقامَ جوهرُ القائد لأبي تميم صاحب مصر أبا بكر النّابُلسي، وكان ينزلُ الأكواخ، فقال له: بلغَنَا أنّك قلتَ: إذا كان مع الرّجُل عشرة أسهم، وجبَ أن يرميَ في الرّومِ سهمًا، وفينا تسعة، قال: ما قلتُ هذا، بل قلتُ: إذا كانَ معه عشرة أسهم، وجبَ أن يرميَكم بتسعة، وأن يرميَ العاشر فيكم أيضًا، فإنّكم غيّرتم المِلّة، وقتلتم الصّالحين، وادّعيتم نورَ الإلهية، فشهَرَه ثمّ ضربه، ثمّ أمر يهوديًا فسلخه.

قال معْمرُ بن أحمد بن زياد الصّوفي: أخبرني الثّقة، أنّ أبا بكر سُلِخ من مفرق رأسه حتى بلغ الوجه، فكان يذكر الله ويصبر حتى بلغ الصّدر فرحمه السّلاخ، فوكزه بالسِّكين موضع قلبه فقضى عليه… وأخبرني الثقة أنّه كان إمامًا في الحديث والفقه، صائمَ الدّهر، كبير الصّولة عند العامّة والخاصّة، ولمّا سُلخَ كان يُسمع من جسده قراءة القرآن.

– وفي مقدّمة كتاب " تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد" الشيخ سلُيمان ابن الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب: كان رحمه الله آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، فلا يتعاظم رئيسًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتصاغرُ ضعيفًا أتى إليه بطلب فائدة. وقد أكرمه الله تعالى بالشهادة سنة 1233هـ وذلك عندما وشى به بعضُ المنافقين إلى إبراهيم باشا بن محمد علي باشا بعد دخوله الدّرعية واستيلائه عليها فأحضره إبراهيم باشا وأظهر بين يديه آلات اللّهو والمنكر إغاظةً له، ثمّ أخرجه إلى المقبرة وأمر الجندَ أن يطلقوا عليه الرّصاص جميعًا فمزّقوا جسمه، وفاضت روحه إلى ربّه، رحمه الله .

رحم الله الإمام أحمد بنَ حنبل فقد أرادوا أن يصرفوه عن الحقّ، فما انصرَفَ، لأنَّ أحمدَ ممنوع من الصّرفِ! والمانع له من الصّرف ليسَ العَلَمية. ولكن المانع له من الصّرف هو عقيدته الصّحيحة الصّافية التي أخذها عنْ كتاب ربّه.

-العلاّمة عبد القادر الكيلاني رحمه الله ذكر عنه صاحب كتاب قلائد الجواهر: أنّه وقفَ على منبره مُحاسبًا المُقتفي لأمر الله، ومنكرًا عليه تولية يحيى بن سعيد –المشهور بابن المُزاحم الظّالم- القضاء، فقال له مُخاطبًا: ولّيتَ على المسلمين أظلمَ الظّالمين وما جوابكُ غدًا عند ربّ العالمين أرحم الرّاحمين؟ فارتعد الخليفةُ وعزل يحيى بن سعيد لوقته.

قلتُ: كان علماء الآخرة يفترشون الحصير؛ ويلبسون الخَشِنَ من الثّياب، ويسكنون مساكنَ متواضعة لا فرق بينها وبين بيوت الفقراء، لكنّهم كانوا مخلصين؛ قَوَّالين للحقّ تخافهم الملوك والأمراء، أمّا اليوم فعلماء الدُّنْيَا المنتسبون إلى هذا الدّين يلبسون النّاعم من الثّياب ويأكلون أطيب المآكل وأشهاها، ويسكنون في منازلَ كالقصور ويركبون أفخر السّيّارات، لكنّهم جبناء عبدوا الحكّام الظّلمة سفّاكي الدِّمَاء، آثروا الحياة الدُّنْيَا على الآخرة فأذلّهم الله ونزع من قلوب النَّاس هَيْبَتَهم وجعل منهم لقمة سائغة في أفواه كلّ من هبّ ودبّ، وأصبحت الكلمة الحكيمة لابن عساكر لحوم العلماء مسمومة، لا قيمة لها عند النَّاس؛ لسان حالهم: تبا لعلمهم وللحومهم الخبيثة التي تأكل وتتعيّش باسم دين الله، ودين الله منهم برآء!

ورحم الله الإمام أحمد بنَ حنبل فقد أرادوا أن يصرفوه عن الحقّ، فما انصرَفَ، لأنَّ أحمدَ ممنوع من الصّرفِ! والمانع له من الصّرف ليسَ العَلَمية ووزن الفعل كما يقولُ النُّحَاةُ.. ولكن المانع له من الصّرف هو عقيدته الصّحيحة الصّافية التي أخذها عنْ كتاب ربّه وصحيح سنّة نبيه صلّى الله عليه وسلم، لا يحيد عنهما قِيدَ أنمُلَةٍ، حتى صارَ مقتنعًا أنّ ضربَ عنقه في غير حدّ أهون عنده من أن يقول في الإسلام قولا باطلاً يُقر به حكمَ طاغية، ويكون سببًا في ضياع الآلاف من التّابعين له ..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.