شعار قسم مدونات

حوار مع ضابط مخابرات

blogs - مصر
كنت في رحلة خاطفة إلى الجزائر العاصمة في زيارة لوالدي بعد أن ألم به المرض، وبعد أن خرجت من المستشفى اجتمعت مع عدد من المعارف، كان جلهم من الأصدقاء إلا شخص واحد لم أكن على سابق معرفة به. وبعد أن دارت الأحاديث الخاصة حول أخبار العائلة والأولاد، انتقلنا للحديث كما هو حال معظم اللقاءات الجزائرية عن الشأن العام. تركز الحوار حول ما يشهده الفضاء المغاربي والمنطقة العربية من أحداث بصفة عامة، وواقع الوطن الجزائري بصفة خاصة. ولأن معظم المشاركين في النقاش كانوا من المتعلمين، ارتقى مستوى الحوار عاليا وركز الحضور في تداولهم النقاشي، وبدون استثناء، على عالم الأفكار والحجج وتفكيك المسارات الثقيلة المتحكمة في تاريخ وحاضر ومستقبل المنطقة.

ولكن ما إن عرجنا في الحوار على تحليل الأسباب والنتائج المفصلية لما شهدته المنطقة من أحداث جسام بعد الموجة الأولى من حراك شباب الربيع العربي، وسياق الثورة المضادة المسيطرة على المشهد حاليا، إلا وانقلب هذا المشهد الحضاري إلى نقيضه تماما. ارتفعت الأصوات، غاب الإنصات، كثر الجدل واختلفت وجهات النظر حد التناقض. أحسست بنوع من عدم الارتياح وتساءلت ما الذي يحدث؟ ولماذا يا ترى اتخذ النقاش الهادئ والبناء هذا المسار التصعيدي؟

استرجعت الأحداث وتأملت بتمعن في أسلوب وحال الحضور فتوصلت إلى النتيجة التالية: إن قائد الجوقة الذي بدأ في خلط الأوراق ورفع الصوت ومقاطعة كلام المتحاورين هو ذلك الشخص الستيني الذي لا أعرف عنه إلا اسمه (عمي رابح)، وتدريجيا استطاع أن يؤثر بطريقة غير مباشرة في المتحاورين بل وفي مسار الحوار ككل، لدرجة أنه نجح في الانقلاب على جو الحرص على التوافق الذي استحضره الجميع في بداية التلاقي، ليحل محله الحرص على الاصطفاف والتموقع الحدي. فالجو تبدل وخلفيات الفاعلين في هذا اللقاء العائلي تغيرت، بحيث انتقل معظم الحضور من منطق النقاش والتداول بهدف الاقناع إلى منطق الجدل والمشاكسة بهدف الافحام.

قال يا دكتور، إن شباب الربيع العبري، الممول من قطر، والمدجن من الجزيرة، والمنحاز للخائنة حماس في فلسطين، والمنبهر بتركيا العدالة والتنمية، لن تقوم له قائمة ولن ينجح لأنه عدو للأمة وحليف لأمريكا وإسرائيل!

بناء على هذا الاستنتاج تساءلت بيني وبين نفسي: يا ترى! هل الأجدى أن أنسحب وأعتذر وألتحق بغرفتي في الفندق؟ أم أن الموقف يقتضي المواجهة واسترجاع جو الحوار الهادئ والتداول المبني على الحجج، خاصة وأن الأفكار السائدة لا يسندها التحليل العلمي ولا المنطق السوي؟ ومن دون تردد قررت أن اشتبك فكريا مع عمي رابح. توكلت على الله واخترت المناقضة المؤدبة أسلوبا لي، وبدأت اشتباكي بالاستدراج وذلك بالنظر المباشر صوبه، وأشرت إليه بيدي إشارة يفهم منها أنني أسأل عما به دون أن أتحدث بكلمة واحدة؟ كررت ذلك المرة تلو الأخرى، حتى لم يعد يحتمل وقام من مكانه صارخا ومقاطعا الجميع: ضيفنا الدكتور يريد أن يتحدث معي فهلا سكتم قليلا لأفهم ما يريد، ما هذا الحال (قالها بالدارجة الجزائرية واش بيكم سمعونا سكاتكم، ياخي حالة ياخي)، ولأنه كان أكبر الحاضرين سنا وله هيبة، في لحظة تمكن من اسكات الجميع.

استفدت من لحظة الصمت هذه، لأشكر حرصه على الاستماع إلى ما أود أن أقوله له. وبدأت كلامي بسؤال واضح من دون لف ولا دوران: من فضلك يا عمي رابح، سامحني إن قلت لك بأن جل ما قلته على جيل الشباب المنتفض، وحركة حماس وقطر وقناة الجزيرة وتركيا فيه الكثير من المغالطات والشطط، أسس على حكايات من نسج الخيال وتناقضات واطلاقات لا تقف على أرضية صلبة.

بل وأني أراك لم توفق لا في الأسلوب ولا في مضمون التحليل، حيث أنك قد أكثرت من الاعتراض علي وعلى من يعتبر من السادة الحضور أن ما يحدث في المنطقة على الرغم من تعقيده وكثرة اشكالاته سيكون فيه خير على مجتمعاتنا على المدى المتوسط والبعيد، خاصة فيما يتعلق بتحرير الأوطان من الاحتلال الجديد، وبناء الانسان الواعي والفاعل، وتكوين مؤسسات الدولة الديمقراطية، وبلورة مجتمع المواطنة المتساوية، وإنجاح مسار التنمية الملتزمة بالعدالة الاجتماعية والتوازن البيئي.

وقبل أن أكمل قاطعني بسؤاله: ولكن لماذا كل هذا التفاؤل ومن أين لك بهذا اليقين والحال أن الربيع العبري (يقصد الربيع العربي) بقيادة قطر وتركيا وقناة الخنزيرة (يقصد الجزيرة) قد فشل؟ فاجأته قائلا (وصور الشهداء والمساجين والثكالى والمهجرين والمجروحين وآمال ملايين النساء والرجال في منطقتنا من المحيط إلى الخليج في ذهني): لأن جيلي من شباب الموجة الأولى من الربيع العربي هو الآن في (لحظة جزر جيلية) قرر فيها بشكل جماعي (ومن دون تنسيق مباشر) أن يخصصها ليستوعب ويدرس ويفهم أسباب الانتكاسة الأولى، وما هي الشروط المادية والمعنوية لتحقيق الشعارات التي رفعت أيام الحراك الأولى الملخصة في: الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.

جيلي من الشباب اليوم يسعى على مستوى الفكر والفعل أن يحقق بــ (التراكم الجيلي) (كما كتب عن ذلك عالم الاجتماع الجزائري د. ناصر جابي) ما لم تستطع النخب التي قادت مرحلة ما بعد الموجة الأولى من الربيع العربي، تحقيقه في مؤسسات الدولة وفضاءات المجتمع. وعلى فكره هذا الأمر هو الذي سمح باستئساد أنظمة الثورة المضادة المسيطرة على واجهة المشهد حاليا في كامل المنطقة باعتبارهم وكلاء الاحتلال الجديد.

بعد برهة وأنا أحاول أن أرد عليه، همس في اذني أقرب الأصدقاء إلي في تلك الجلسة : (كف يا دكتور رمزي، فعمي رابح ضابط سامي في جهاز المخابرات، فأرجوك لا تسبب لنا المشاكل).

والأهم في تقديرنا كجيل هو أن نركز في وعينا كل ما استفدناه وسنستفيده من دروس هذه المرحلة، بما يتيح لنا فرصة تقييم وغربلة الأفكار والأشخاص والمشاريع التي تمحص الآن على الهواء مباشرة، وبالتالي تحصيل تراكم وقدرة أكبر على بلورة استراتيجية متعددة المستويات للتعامل مع التحديات، خاصة بعد الانكشاف وتجلي الصديق المساند لمطالب الشعوب عن غيره.

ابتسم عمي رابح وضحك مستهزئا من كلامي، وأمعن النظر في الحاضرين واحدا واحدا، متجنبا التركيز في وجهي وقال فيما معناه دون أن يرف له جفن: (يا دكتور إن شباب الربيع العبري، الممول من قطر، والمدجن من الجزيرة، والمنحاز للخائنة حماس في فلسطين، والمنبهر بتركيا العدالة والتنمية، لن تقوم له قائمة ولن ينجح لأنه عدو للأمة وحليف لأمريكا وإسرائيل … ولن تقنعني وأمثالي بقولك المعسول حتى لو كان منطقيا، فأنا ضدكم جميعا أنت والشباب وحماس وقطر وتركيا).

ثم نظر في وجهي محدقا خاتما كلامه بالقول: ( يا بني أنت ابن عائلة ومثقف ولكنك لا تملك من مشاريعك في التحرير والتوعية والتغيير العميق إلا النظر الحالم)، وبعد برهة وأنا أحاول أن أرد عليه، همس في اذني أقرب الأصدقاء إلي في تلك الجلسة : (كف يا دكتور رمزي فعمي رابح ضابط سامي في جهاز المخابرات، فأرجوك لا تسبب لنا المشاكل). فنظرت إلى ضابط المخابرات وخاطبته مبتسما: يا حظارات (كلمة دارجة تطلق على ضباط الجيش الأعلى رتبة في الجزائر)، صحيح أننا الآن لا نملك من مشاريعنا إلا الأمل والنظر، ولكن الأيام بيننا وستعلم بأن ما هذا النظر إلا أول الخبر!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.