شعار قسم مدونات

وداعا محبوبتي

مدونات - اليمن
ودّعها يوسف وقلبه مملوء بالغبن، والدموع تملأ المآقي، قبل أن تسقط البلاد بيد جماعات الموت. سافر يوسف إلى بلاد الهند كي يكمل دراساتهُ العُليا. لكن، بقي روحه مٌعلق بمحبوبته التي تقطن في ريف إقليم الجند باليمن الحزين. كان على اتصال دائم بها، فجسده في أرض الغربة، لكن، روحه مُعلقة بالأرض التي ترعرع تحت سمائها.

مرت الأيام والشهور بل والسنين، ويوسف لا زال يتطلع لزيارة محبوبته، كي يقضي معها بعض الوقت، ثم يعود لاستكمال دراسته. لكن، حالت آلة الموت، والخراب، والدمار بينه وبينها. كان يعيش يوسف في غربته منعزلا. لا يحب الاختلاط، ولا يحب الخروج مع زملائه، يحب الوحدة. ما أصعب الحياة في الغربة! لم يكن، له صديق سِوى قلمه، ودفتره يشخبط فيه عن تخصصه، وعن حالته المزرية، وحال وطنه الحزين ومحبوبته التي تتطلع للقائه، ويتطلع للقائها.

هل ما يحدث اليوم في أرض اليمن الحزين ما هو إلا سحابة صيف وستنجلي؟ هل من الممكن أن يعود إلى بلاده حاملا شهادته العليا، وسيدّرس في كلية الآداب بمدينته المغلوب على أمرها؟ أم سيبحث له عن بلاد يَمكث فيها ما تبقى من عمره؟

كان يوسف يتألم ويئن وصوته يدمي القلب، لم يكن هناك ضوضاء في الغرفة التي يسكنها يوسف في الدور الثاني في أحد الأحياء الشعبية بمدينة أغوار الهندية. كان يصلي الليل ويتهجد ويدعوا الله أن يوقف الحرب في بلاده. كانت الدموع تنهمر على خديه مثل المطر، ويسمع له أزيز مثل أزيز النحل وهو يتلوا القران أو يتغنى بقصيدة شعرية تتحدث عن ألم الفراق ولوعة الحنين.

آه من واقع لا يُطاق! يعيش يوسف ليله وهو مبلل بالدموع ويتساءل ببراءة: هل ستنتهي الحرب؟ هل سيعم السلام في أنحاء البلد؟ هل سيعود اليمن سعيدا كما كان؟ هل ستختفي جماعات الموت وعصابات الإجرام من المشهد؟ هل سيعود يوسف إلى اليمن ويدخل مكتبة جامعة تعز وينهل ويتلذذ بشعر الزبيري والمقالح، والبردوني؟ هل ما يحدث اليوم في أرض اليمن الحزين ما هو إلا سحابة صيف وستنجلي؟ هل من الممكن أن يعود إلى بلاده حاملا شهادته العليا، وسيدّرس في كلية الآداب بمدينته المغلوب على أمرها؟ أم سيبحث له عن بلاد يَمكث فيها ما تبقى من عمره؟ كل هذه الأسئلة كانت تجول بخاطره. لكنه، لم يجد لها جوابا.

اشتدت الأحداث في البلد. يتصفح يوسف شبكات الإنترنت ويبحث عن أحوال بلاده، إذا به يلقى عبارة لنزار قباني "أيا وطني جعلوك مسلسل رعب نتابع أحداثه في المساء"، فيشتدّ ألمه وينهمر الدمع على مقلتيه! ويفتح شبكة الإنترنت مرة أخرى وإذا به يرى صورا مأساوية لأطفال قد قطعت أيديهم نتيجة للقصف العشوائي! الكل يصرخ ويئن كالأسود الجريحة مما يجري هناك. طغت الأحزان على كل شيء (النساء، الأطفال، الشيوخ) يموتون، ولا أحد ينقذهم من آلة القمع الجهنمية، التي لا زالت تمسك بزمام الأمور هناك. أصبحت الجروح غائرة، والنسيج المجتمعي مفكك، فيشتد ألم يوسف.

يتساءل يوسف من هو السبب في إيصال البلد إلى هذا المستنقع. يجري يوسف اتصال بصديقه محمود كي يستفسره، فيرد عليه محمود ويشرح له القصة بالكامل:
محمود: كان عندنا يا يوسف أمن لا بأس به، وكانت عجلة التغيير تمشي في البلد بسرعة فائقة، توفرت الوظائف، وانتشرت المشاريع ، وبداء اقتصادنا الوطني يتعافى، كل هذا حدث بعد ثورتنا االيمنية في العام 2011. لكن، لم يحلوا ذلك لدعاة الموت وعشاق القتل والدمار. ذات يوم خرج رجل اسمه حميقان بن لعبوش من جرف صغير في منطقة شمالية بالقرب من منطقة نهوقة السعودية. كان يرفع هذا الرجل شعار" الله أكبر". ويدعي انّه من نسل الإمام علي بن أبي طالب. وعد هذا الرجل الناس بالأمن والسلام، وبناء الجامعات، والقضاء على الإرهاب، ومحو الأمية، وفتح المزيد من مراكز العلم، والقضاء على الفساد.

خرج يحمل شعار الموت للغرب والأمريكان، واللعنة على اليهود، وكانت شعاراته حنانة رنّانة. كان حميقان يصرخ ويقول سنقضي على العملاء، فصدقه الجهلاء، وشيوخ القبائل. مسك حميقان بن لعبوش الحكم بقوة الحديد والنار، لكن، سرعان ما دمر البلد، ونشر الأمية، وخربّ المدارس، وقتل الأطفال والنساء، ودمر البيوت، وفجر دور العبادة، وهتك الأعراض، وأراد ان يحرم الناس حتى من صلاة التراويح في المساجد، لكنه، لم يستطع. قتل أحلام الشباب، وحتى العرسان، فقد قتلت مليشيات حميقان بن لعبوش خطيب فتاة قبل موعد زواجهم بشهر. فتحولت القرية التي تسكن بها تلك الفتاة إلى مأتم بدلاَ من ان يتحول إلى أفراح.

يرجع إلى غرفته، والهم والحزن يخيم على قلبه، فيتنهد ويضع يده على قلبه ويردد "عذرا محبوبتي فاليمن لم يعد سعيدا في الوقت الحالي حتى أعود، لكن حتما سأعود.

يمضي محمود في شرح الوضع في اليمن الحزين لصديقه المغترب يوسف ويقول "تحول شعار حميقان بن لعبوش من الموت للغرب واليهود إلى موت لليمنيين. كان من ضمن شعاراته الرنانة يا يوسف "سنقضي على الفقر ونخفض الأسعار وكان يسمي ثورته بثورة الجياع والقضاء على الجرعة، فما ان صلحت له الأمور حتى جوّعَ الناس وجلب للشعب الجرع والموت بالجملة. انتشر في عهده مرض الملاريا، الطاعون، والكلويرا، وتكدست المدن اليمنية السعيدة بالقمامة. غيّر وجه تلك المدن الحضارية إلى مدن أشباح يسكنها مليشيات تحمل كلاشنكوف، والغام، وقنابل. تنشر هذه المليشيات الرعب في الأزقة، والشوارع، والبوادي، والحضر. يختتم يوسف مكالمته مع صديقه محمود ويؤكد له ان الشعب اليمني قادر ان ينهي حكم عصابة حميقان بن لعبوش وإلى الأبد، وسيكون ذلك قريب وقريب جدا.

بعد ذلك، يواصل يوسف دراسته ويتجول في مكتبة جامعته بمدينة أغوار الهندية عله يلقى رواية، أو قصة، أو مقطوعة أدبية تخفف من وجعه الذي لم ينتهي بعد. ذات يوم وفي مكتبة جامعته كان يقرأ رواية البؤساء للروائي الفرنسي الشهير فكتور هيجو وكتاب هروبي إلى الحرية للسيد علي عزت بيغوفيتش، رئيس جمهورية البوسنة والهرسك. كان يحرك نظارته ويتأمل في العبارات التي كتبها أولئك العظماء فيزداد نهمه وشوقه للقاء محبوبته. يتحرك يمنة ويسرة، يضع نظارته جانبا، يشرب كوبا من الماء البارد، يضع سماعة الهاتف في أذنيه ويسمع أغنية للفنان اليمني القدير أيوب طارش عبسي، "مطر مطر والضبا بينه، يا ريت وأنا سقيف وكلهن يدخلنه، يا ريتني كوز بارد وكلهن يشربنه على شوية صعيف". لم يفلح في تهدئة مشاعره. كل ذلك كان يهيّج مشاعره، ويجعله يغوص في ذكرياته القديمة التي قضاها مع محبوبته ويتذكر لحظة وداعه لها، فيئن ويزداد ألمه على بلده.

يغادر يوسف المكتبة ويجري اتصال هاتفي بمحبوبته "عليا" علَ صوتها يهدئ من غربته. يتفاجأ يوسف أن خطوط الاتصال قد قطعت. فيرجع إلى غرفته، والهم والحزن يخيم على قلبه، فيتنهد ويضع يده على قلبه ويردد "عذرا محبوبتي فاليمن لم يعد سعيدا في الوقت الحالي حتى أعود، لكن حتما سأعود.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.