شعار قسم مدونات

عن أعمارنا الضائعة

blogs- الحياة علىالهامش

يُروى أن سيدنا نوحا عليه السلام مر يوما على امرأة عجوز تبكي عند قبر، فقال: ما يبكيك؟ قالت: أبكي ولدي الذي قد مات. قال: كم كان عمره؟ قالت: ثلاثمائة عام. فابتسم عليه السلام، فقالت: ما يضحكك؟ -كأنها أنكرت عليه قلة تعاطفه مع مأساتها- فقال: يا امرأة، كيف بك إذا جاءت أمة أعمارهم بين الستين والسبعين؟ فقالت: وما يفعلون فيها؟ لو أني من هذه الأمة لقضيت عمري كله في سجدة واحدة لله تعالى.

 

هذه القصة السابقة مكذوبة ولا تصح نسبتها إلى سيدنا نوح عليه السلام، ولكن معناها صحيح تماما، ويشهد له ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الحاكم في المستدرك وقال إنه صحيح على شرط مسلم، ومفاده أن عمر آدم عليه السلام كان ألف عام، فالبشر في بداية الخلق كانت أعمارهم طويلة حتى إن نوحا عليه السلام قد لبث في دعوة قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الإيمان، ثم كان له عمر آخر بعد الطوفان، واستمر الزمان وتطاولت السنون ونُزعت البركة من الأرض شيئا فشيئا، وأصبحت أعمار الناس قصيرة ورحيلهم عن الدنيا قريب من دخولهم فيها، ولعل ذلك من رحمة الله تعالى بنا -أهل آخر الزمان- إذ جعل الامتحان قصيرا والجزاء كبيرا ولكن الواقع أن الممارسة البشرية بعيدة عن إدراك هذه الفكرة أو العمل بمقتضاها!

 

إن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام أخرج من ظهره بنيه إلى يوم القيامة فملأوا السهل والوعر -أي: المنخفض والمرتفع من الأرض- فقالت الملائكة لرب العزة سبحانه: إذن لا تسعهم الأرض. -أي: لا تكفيهم للحياة والحركة والعمران- فقال الله تعالى: إني جاعل موتا. فقالت الملائكة: إذن لا يهنؤهم عيش. فقال سبحانه: إني جاعل أملا.

 

هذه الكلمة الأخيرة تختصر الأمر، إنه الأمل الذي يجعل الإنسان يحسن الظن بنفسه وبالدنيا وبزينة الأرض إذا أخذت زخرفها وتزينت فيظن ساعتها أنه قادر عليها ومخلد فيها وأن أمر الآخرة بعيد، وحتى لو افترضنا أن هناك آخرة فلئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا من هذه الزخارف والمتاع فإن الله لو لم يكن يحبني لما أكرمني بكل هذا النعيم في الدنيا، ويستمر في غيه وضلاله حتى يأتيه أمر الله تعالى ليلا أو نهارا فتصبح ثرواته كلها حصيدا كأن لن يسعد بها بالأمس سعيد ولم يتنعم بها عن قريب متنعم.

 

هذا الأمل الطويل والوهم العريض والغرور المسيطر على الإنسان يدفعه دائما إلى تفويت الفرص المتاحة ظنا أن غيرها مما هو أفضل منها سيأتي قريبا، وهذا الضلال والجهل وانطماس البصيرة يؤدي إلى عدم الانتفاع بالحاضر ولا الاستعداد الجاد للمستقبل القريب في الآخرة، ولا الأقرب في الدنيا، ثم يجد الإنسان فجأة أن عمره قد انتهى وفرصته قد ضاعت فيندم طلبا للمزيد من الوقت لعله يفعل ما لم يفعله لكن الجواب يفجأه أن الأجل لا يتأخر ساعة ولا يتقدم، ومهما عاش الإنسان فيفاجئه الأجل ويقول لنفسه وهو على فراش الموت: كأني لم أعش في الدنيا إلا يوما أو يومين مرا سريعا، وقد قيل لسيدنا نوح عليه السلام وهو على فراش الموت كيف وجدت الدنيا؟ قال: وجدتها كدار لها بابين دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر!

 

تأمرنا هذه الأحاديث بالمبادرة والمسارعة واستغلال كل المتاح قبل زواله فإن زواله قريب، فتذكر سبع نعم ثم خمس ثم أربع ثم ثلاث ثم نعمتان من فاته الخير منها ولم يُوفق لاغتنامها فقد حُرم حرمانا شديدا.

إن خمسين عاما أو ستين أو سبعين أو حتى تسعين ومائة عام قد يعيشها أحدنا هي عمر قصير جدا، ولا يكاد يكفي لفعل شيء، والسعيد من بادر واستفاد بالممكن واستثمر المتاح وعمل بقدر طاقته حتى يأتيه أجله وهو على ذلك، والغافل من استمر في التمني وعاش في الأحلام حتى يأتيه الموت وهو صفر اليدين من خيري الدنيا والآخرة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

أرجو أن تتأمل معي أخي القارئ هذه الأحاديث النبوية الخمسة بعقلك وقلبك وروحك وكيانك كله، وتذكر أن هذا كلام للصادق المعصوم المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، فهو ليس كلاما مستهلكا يقال في محاضرة تحفيزية مبتذلة ولكنه نور وهدى وضياء ورشاد للعالمين، تأمرنا هذه الأحاديث بالمبادرة والمسارعة واستغلال كل المتاح قبل زواله فإن زواله قريب، فتذكر سبع نعم ثم خمس ثم أربع ثم ثلاث ثم نعمتان من فاته الخير منها ولم يُوفق لاغتنامها فقد حُرم حرمانا شديدا.

 

 

–       أولا (سبع نعم بتأجيل شرور سبعة): عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: " بادروا بالأعمال سبعا: هل تنتظرون إلا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر " (حديث حسن، رواه الترمذي في السنن)

 

–       ثانيا (خمس نعم): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: " اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ " (حديث صحيح، رواه الحاكم في المستدرك)

 

–       ثالثا (أربع نعم): عن أبي برزة نضلة بن عبيد الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ " (حديث صحيح، رواه الترمذي في السنن)

 

–       رابعا (ثلاثة نعم هي خير الدنيا كلها): عن سلمة بن عبيد الله بن محصن الخطمي، عن أبيه، وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا. (حديث حسن، رواه الترمذي في السنن)

 

–       خامسا (نعمتان هما أصل الإنجاز): عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ " (حديث صحيح، رواه البخاري في صحيحه)

 

إن حال الإنسان مع أيامه كحال رجل يبيع الثلج في ظهر يوم حار فهو يصرخ في الناس ويقول: ارحموا من رأس ماله يذوب!

إنها رسالة لنفسي الغافلة والقبر يقترب منها، ورسالة للأمة كلها وشبابها خاصة، تذكروا أن  أعمارنا عن قريب تنتهي، وعمرنا في هده الدنيا محدود جدا، والأمر يشبه الساعة الرملية كلما سقطت حبة رمل إلى الأسفل لن تعود إلى الأعلى مرة أخرى، وإذا سقطت كل القطع رحلت عن الدنيا ودخلت قبرك وتسلم الراية من بعدك جيل آخر لن تُسأل عما يفعلون ولن يُسألوا عما فعلت وكلكم آتيه يوم القيامة فردا، وكم سمعنا وقرأنا أن من أضاع وقته فقط أضاع نفسه فالوقت هو مادة الحياة، ومن أعطاك بعض وقته فقد أعطاك بعض نفسه فاحفظه وصنه ولا تهدره، واحفظ نفسك وصنها ولا تهدرها فإنك مسؤول عنها يوم القيامة فالحذر الحذر من تضييع وقتك فتضيع عليك نفسك، فالعمر سريع الانقضاء، وأنا أكتب هذه الكلمات في أواخر رمضان من عام 1438هـ وتحديدا في اليوم الثاني والعشرين منه رغم أني أشعر أنه اليوم الثاني أو الثالث على الأكثر، بل وأذكر رمضان من العام الماضي كأنه كان قبل أسابيع قليلة من الآن، وهذا حال أغلب الناس فنذكر الطفولة وأحداثها والصبا وأيامه والشباب وساعاته كأن كل ذلك مر في ثلاثة أيام أو أربعة، وإذا ذهب بعض عمرك فقد أوشك الكل أن يذهب عن قريب، فاحفظ نفسك، واغتنم وقتك، وكن محسنا فيما بقي.

 

أختم بقول القائل: إن حال الإنسان مع أيامه كحال رجل يبيع الثلج في ظهر يوم حار فهو يصرخ في الناس ويقول: ارحموا من رأس ماله يذوب!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.