شعار قسم مدونات

إلى صديقي الموت

blogs الموت

تبدأ رحلتنا إلى الموت، عندما ينقطع الحبل السريّ الخاص بنا، الذي يربطنا بعالمٍ آخر، يبدو أنه كان العالم الوحيد الذي يصلح لحياةِ طاهرة بلا ذنب يُذكر، ولا ألم يؤلم، كان الدليل الذي يثبتُ أننا ولجنا هذا العالم، هو صرختنا الأولى في هذا الكون، الذي اهتزت إثرها نبضات الأم، وابتهج الأب، وعلت الزغاريد، لا أحد من أي هؤلاء كان يعلم ما سيواجه هذا الطفل لاحقاً "لضحتكم قليلاً وبكيتم كثيراً"، ثم ماذا!

ثم تبدأ الخطوات التي لا نعيها، والتي كان من المفترض أن يذكرنا بها والدينا، عندما نكبر، كأول مرة خطونا فيها أول درجة، كأول مرة قلنا "بابا، وماما ". عندما تسلّمنا شهادة الروضة، كيف كنا، أشقياء أم هادئين؟ ولكن، تحول الظروف أحياناً بينك وبين معرفة طفولتك، إذا فقدتَ أكثر من كان شاهداً على هذه اللحظات وتأثر، إذا فقدت أول من أرقاك حين بدأت تمشي واستندت عليه وعززك، حين تفقد أول صدر تشبع به جوفك من الجوع، ولم تكن تقبل سواه.

الموت نعم !الموت كان هذا الحائل، أتيتها وأنا ابنةً السابعة من عمري، ركضتُ نحو النائمة بكل سلام، سلامُ عليها وألف نور على روحها، ناديتها مراراً لم تجب، خانني صوتي !وضعتُ كفي الصغيرة على كتفيها، فخانني كفي، وبقي كتفها صامتاً، لم يخبرني بأن "هزّتي الصغيرة حتى وإن كانت كبيرة لن تؤثر به ولن يشعر بها"، ركضتُ مهرولة نحو والدي، "أمي مش راضية تصحى"، أي ذعر ذاك الذي أصابه، أي بكاءً ذاك الذي أجدى وقتها، لهذا الوقت لم يجدي البكاء وتركًتنا، حملوها، وخرجوا بها، وتركتنا وكانت هذه أول حلقة لمسلسل الموت، شاهدناها مباشرةً فلم يعد بعدها يدهشنا اسم الموت، أو نستغربه، لكننا إلى الآن نخشاه، ويحفر في أقصى ذكرياتنا ليخرجً المخبّئ فيها.

إلى صديقي الموت الذي أتانا ليلاً، واستلَ من بيننا النور، فغدونا في النفق وحدنا، لا نجيد الخروج أو البقاء.. شكراً لك، لأنك أتيتنا صغاراً فعلمتنا كيف نخوض عراك هذه الحياة وحدنا، علمتنا كيف نقف بعد كل كسرة، بعد كل موجة بكاء، بعد كل وجع

أن تفقدَ عُكازاً كانت تتكئً عليه عرجتك وميلانك وأنت صغير، أن تنطفئ شمعتك التي كانت تنيرُ لك الطريق في الظلام وحتى في النور، أن يغادركَ الثوب الذي لطالما تمسّكتَ بهِ واختبأت خلفه خوفاً من الخوف !يعني أنك ستٌجبر على مجابهة الحياة، فيما بعد وحدك! لتكون العكاز والشمعة والثوب الذي تتدثرّ به قارس البرد في أشد لياليه والحياة تمضي، وتُجبرك على التعايش معها اذا ما فُرض عليك البقاء، نعيش على أمل أن تحمل لنا بين طياتها ما نُمنّي النفس فيه.

لم تكُن الحياة قاسية، بل كانت القسوة بمن فيها، بصنوف الشر الذي تقابلك وتكشّف لك عن أنيابها. والمفترض منك أن تواجهها وحدك، تفيض عليك بأيام تتمنى فيها حضن امرأةٍ لطالما حَمَتك فيه وأحاطت بك بذراعيها، سلاحها الأعظم، تتمنى صدرها تبكي عليه وتُربّت هي على روحك بكلماتها، وتعويذاتها ودعاءها الذي يحصنك فما ترى شراً، ولكنّ الله كريم، يؤتي كلاً من سعته، وبقدر الجرح يكون التئامه !

إلى صديقي الموت الذي أتانا ليلاً، واستلَ من بيننا النور، فغدونا في النفق وحدنا، لا نجيد الخروج أو البقاء.. شكراً لك، لأنك أتيتنا صغاراً فعلمتنا كيف نخوض عراك هذه الحياة وحدنا، علمتنا كيف نقف بعد كل كسرة، بعد كل موجة بكاء، بعد كل وجع، لم يرسلك الله ذات ليلةٍ عبثاً، ولم تتركَ فينا أثركَ هذا عبثاً..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.