شعار قسم مدونات

بوكوفسكي.. الأمريكي الحزين

مدونات - بوكوفسكي

أمريكا هي بلد الصخب والعنف والجاز والناس الذين يُسرعون في الأكل والكلام والحركة ولا يَجدون وقتاً للهدوء والتفكير. وعَبّرَ عن ذلك بوكوفسكي حين قال على لسان أحد شخصيّاته الروائية طبعاً: "إنّنا لا نملك الوقت حتّى لرفع سراويلنا". إنّها بلد مهووسة بالضجة وهي كل يوم تفكر في تقاليع تغزو بها العالم. وقد كان بوكوفسكي رافضاً لهذه الفكرة. فقد قال راسيل هاريسون عن بوكوفسكي أنه كان في واقع الأمر كاتباً سياسياً وهو الأديب الأمريكي الرئيسي الذي نَفَى نجاعة الحلم الأمريكي.

وأمريكا هي بلد ناطحات السحاب والأضواء التي تُلغي الفرق بين الليل والنهار. هي بلد الإعلانات.. كل شيء فيها يَخضع للإعلان حتّى دور العبادة. وتستطيع أن تقرأ في بعض شوارع نيويورك عن إحدى الكنائس تقول: "يُرافق الصلاة موسيقى رائعة ووسائل الراحة مضمونة". وعشرات الملايين في أمريكا يَعيشون هذه الحياة ويَتحمسون لها. ولكن نظرة عميقة تخترق هذه الزحمة وتنظر إلى القاع تجد شيئاً مختلفاً. إنّ الصخب والضجيج يُخفيان حزناً عميقاً يأكل قلب أمريكا. لقد وَقَفَ مهندس فنان ذات يوم في نيويورك وقال: "هذه مدينة مليئة بالزينة.. لكنها زينة مفجعة".

رفض تشارلز بوكوفسكي البلاغة التقليدية لأسباب أدبية في جزء منها وفلسفية في جزئها الآخر. فقد جاهد تشارلز كي يَضع على الورق ما يحدث حقيقة في الواقع والحالة الواقعية للأشياء.

إنّ المشكلة الكبرى التي تفرض نفسها على معظم البيئة الأمريكية هي أن الآلة تسيطر على الإنسان وتسبقه في كل شيء. ولذلك فإنّ المدينة الأمريكية هي فرن ملتهب يبتلع الإنسان ولا يعطيه فرصة للاستمتاع بصداقة أو فنّ أو شيء عميق آخر. خاصة من منظور الطبقة العاملة. وعلى عكسها البرجوازييّون الذين وَصَفَهُم فيكتور هيجو فقال: "البرجوازي هو الرجل الذي يَجِد متّسعاً من الوقت للجلوس".

وبين الحين والحين يظهر نوع فريد من الأمريكان ليكشف لهم وللعالم ذلك الحزن العميق الذي يعيش في هذا البلد المجنون بالسرعة وعدم المبالاة. إن هذا النوع من الأمريكي الحزين.. الأمريكي الذي قاسَى حياةَ مجتمعه فامتلأ قلبه بالأسى لأنه لم يجد في هذه الحياة تلك المعاني الإنسانية الكبيرة التي تجعل الإنسان يحتمل وجوده وربما يَسعد به. من بين هؤلاء أمريكي حزين مَلَأَت شهرته العالم وأساء الكثيرون فهمه. حتى أمريكا نفسها جعلت منه صورة مائعة خليعة. وقد صُنِّفَ في بلده على أنّه "تخريبيّ". ذلك هو هنري تشارلز بوكوفسكي.

|يتوافق هذا الرفض لسياسات العمل الذي يُعَبّر عنه بوكوفسكي في رواية "مكتب البريد" مع سياسة رفض النظام الرأسمالي الأمريكي. ففي الصفحات الأولى من روايته يحكي لنا بوكوفسكي عن الحياة المهنية الميكانيكية المضنية التي كان يعيشها "تشيناسكي" حينما عَمِلَ في أحد مكاتب البريد كساعي بريد مناوب. وبسبب تلك الحياة المهنية التي بالكاد تترك له قسطاً من الراحة لم يكن "تشيناسكي" لِيَحظى بوجبة الغداء ولكنه حينما ترسّم في عمله بعد ثلاث سنوات صار بإمكانه تناولها فقال مغتبطاً: "والله سأفعلها سأتناول وجبة الغداء ثم أعود إلى برنامج العمل! الحياة أخيراً صارت مُحتَمَلة". وكذلك حينما انتقل إلى عمل آخر قال أنه صار يَشعر أنه "إنسان" لمجرد أن كان في مقدوره الذهاب إلى المقهى المجاور لمكتب العمل وإحتساء الشاي.

أمّا عن الأسلوب الذي كَتَبَ به بوكوفسكي هو أسلوب مميّز لكنه مبسَّط. تقول ريم غنايم في مقدمة كتابه مَكتب البَريد: "للكتابة البوكوفسكية ميزة هي انفلاتها من سجن اللغة. تعتمد على التواضع وعلى بناء الجملة والأسطر والفقرات والفصول القصيرة". غير أنّ للكتابة البوكوفسكية ميزة أخرى وهي "التكرار". ليسَ التكرار بمعنى الحشو الزائد أو تكرار لا طائل منه.

إن أيَّ قارئ لأعمال بوكوفسكي سوف يكشف له نَمَطاً مركباً لسلاسل لفظية متكرّرة. والتكرار المعجمي على هذا النمط قد ينتهي بالحصول على أقلّ الدرجات في مواضيع الإنشاء المدرسية. وبالفعل كنت انا نفسي أعتمد على هذا الأسلوب في الكتابة وعادة ما ينتهي الأمر بداوئر بالقلم الأحمر على كل كلمة متكرّرة لأنّ الأساتذة لم يكونوا يفهمون ذلك. وذلك عن حَقّ فالنموذج التقليدي للنثر الأدبي الجيّد يتطلّب تنويعاً متميّزاً. فإذا تَعَيَّنَ عليك ان تُشير إلى شيء ما أكثر من مرّة ينبغي لك أن تعثر على طرق بديلة لوصفه.

الحزن الذي يعيشه الأمريكي الحزين هذا الحزن هو أمل الإنسانية كلها. إنه الحزن الذي يَدعو الإنسان للعيش بقلبه وأن يكون عادلاً وحراً وأن يُعطي الحقوق لأصحابها. ويوم يتحقّق كل ذلك سوف تطمئنُّ روح هنري تشارلز بوكوفسكي.

مع ذلك فقد رفض تشارلز بوكوفسكي البلاغة التقليدية لأسباب أدبية في جزء منها وفلسفية في جزئها الآخر. فقد جاهد تشارلز كي يَضع على الورق ما يحدث حقيقة في الواقع والحالة الواقعية للأشياء التي أنتجت الإنفعال الذي مرّت به الشخصية. ذلك عن طريق استخدام لغة بسيطة دالة خالية من زخرفة الأسلوب. وفي هذا الشأن يقول بوكوفسكي: "أظنّ أنّ الجمهور الألماني أكثر انفتاحا على المغامرة وعلى سُبُل التعبير الجديدة. لماذا؟ لا أدري. يبدو أنهم هنا في أمريكا يفضلون أكثر الأدب الآمن والثابت".

إنّ التكرار كذلك هو سمة مميزة للكتابات الدينية والصوفية أو تقديم الحياة بصورة إيجابية كئيبة. كما أن التكرار وسيلة مُحَبّبة للخطباء والوعاظ. كما يمكن أن يكون فكاهياً. لذلك يَصِحّ القول أن التكرار بالنسبة لبوكوفسكي -باختصار شديد- يكون إمّا تأكيداً أو تبريراً أو برهنةً. ففي إحدى الصفحات الأولى من رواية مكتب البريد يقول: "كان يومي الثاني بوصفي مساعداً لساعي البريد في موسم عيد الميلاد عندما خرجت معي تلك المرأة الضخمة وطافت معي وأنا أوزّع الرسائل. ما أقصده بكلمة ضخمة.." وهنا نلاحظ تكرار كلمة "ضخمة". ففي مثل هذه الحالة يكون التكرار ضَرباً من ضروب الجزم. فإذا قال "ضخمة" مرة واحدة لن يكون أثرها على القارئ كأثرها عليه عند تكرارها. فهو يُتبِع فكرته بألفاظ متكرّرة ليؤكّد على صوابيَّتِها ويَنفي عنها هامش الخطأ واحتمالات كثيرة أخرى قد يَرسمها القارئ في مخيّلته.

إنّ الحزن الذي يعيشه الأمريكي الحزين هذا الحزن هو أمل الإنسانية كلها. إنه الحزن الذي يَدعو الإنسان للعيش بقلبه وأن يكون عادلاً وحراً وأن يُعطي الحقوق لأصحابها. ويوم يتحقّق كل ذلك سوف تطمئنُّ روح هنري تشارلز بوكوفسكي. لأنّ العالم سوف يتحوَّل إلى كلمة حياةٍ وديعة. تلك الكلمة التي لم يَجِدها تشارلز بوكوفسكي في مجتمعه ففارق دنياه وهو شقيّ حزين.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان