بدأ الإنسان في هذه المرحلة يفكر في الكون والخلق، وأراد أن يعبر عن حبه للأرض فقدسها وعبدها وصنع تمثالاً لها من الطين على شكل امرأة عارية أطلق عليه العلماء اسم تمثال "الآلهة الأم"Mothe Goddess. وكان الدافع لذلك أن الإنسان قد اكتشف بعد دهشة وتفكير طويل أن الأرض تشترك مع المرأة في ظاهرة الخصوبة والإنجاب والعطاء.
إن الهالة الدينية التي أحاط بها ملوك أكد أنفسهم بشكل مبالغ فيه دفعت المؤرخين إلى اعتبار ذلك خروجاً عن الدين وكان سبباً رئيسياً في سقوط الدولة الأكادية على يد الجوتيين. |
وتتوالى الأيام والسنون وتدخل البشرية في مرحلة الألفية الثالثة قبل الميلاد وهي المرحلة التي شهدت تأسيس الإمبراطوريات العظيمة في منطقة الشرق القديم، خاصة في وادي الرافدين ووادي النيل. تشير الأساطير السومرية القديمة بأن السومريين كانوا يعتقدون بأن الآلهة قد خلقت البشر حتى يقوموا على خدمتهم، وأن الإنسان بحاجة إلى الحكام الذين تختارهم الآلهة لتنفيذ قوانينها المقدسة ففي عصر قديم جداً نزل التاج وعرش الملكية من السماء.
وتذكر قائمة ملوك سومر بأن الملكية هبطت من السماء لأول مرة قبل الطوفان على مدينة أريدو، ثم رُفعت الملكية إلى السماء، ثم نزلت الملكية من السماء مرة ثانية على مدينة كيش بعد الطوفان. وبناءً على هذا المفهوم سيطرت سلسلة من الحكام على مصائر الناس في بلاد سومر نيابة عن الآلهة. وبذلك كان الملوك السومريون يتمتعون بالقدسية منذ أقدم العصور وكانوا يتلون الآلهة في المرتبة وهم ظل الآلهة على الأرض.
وكان أولئك الحكام من طبقة الكهنة، ويدل على ذلك أن الحكام كانوا يسكنون في بداية التاريخ السومري في جناح خاص ملاصق للمعبد يسمى كيبار، بمعنى أن الملك لم يكن له قصر مستقل للحكم، إلى درجة يمكننا القول أن العمارة السومرية عمارة دينية تركزت بشكل رئيسي على بناء المعابد، ومعظم معلوماتنا عن العمارة السومرية مستمدة من العمارة الدينية وليست من العمارة الدنيوية مثل البيوت والقصور.
وكان المعبد يشتمل على مقر الكاهن أو الملك كما يشتمل أيضاً المخازن والمشاغل في المدينة، وهذا يعكس الدور الذي كان يؤديه المعبد من الناحية الإدارية والاقتصادية في المدينة السومرية، ويؤكد ذلك أن الملوك في العصور اللاحقة حتى بعد أن انفصلت سلطتهم الدنيوية عن السلطة الدينية ظلوا يحتفظون بشخصيتهم الدينية المقدسة باعتبارهم ممثلين للآلهة على الأرض وهم وسطاء بين الناس والآلهة. يطلق على هذا الشكل السياسي للحضارات الشرقية اسم "الحكومة الثيوقراطية"، ويعني الحكومة ذات الصبغة الدينية التي يكون فيها الحاكم هو قمة الهرم السياسي والديني.
انعكست هذه الرؤية السياسية الدينية في تخطيط وعمارة المدينة فكان لكل مدينة معبد خاص وإله خاص. وكان الإله حامي المدينة وله حق السيادة عليها، وكان المعبد مسكن الآلهة ومركز الحياة الثقافية ومحور الحركة والعمران والاقتصاد ومظهر نشاط المجتمع في جميع نواحي الحياة، وكان للمعبد أهميته ودوره في نمو التنظيمات السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية.
إن الملك سرجون وحفيده نارام سن اتخذوا لقب ملك الجهات الأربع (شار كبرات اربعيم) وهو لقب ذو مدلول ديني كبير من أجل تثبيت السلطان السياسي. |
ومن أجل ترسيخ هذا المفهوم تم بناء الزقورات ( المعابد المدرجة) في المدن الرافدية، وكانت الزقورة حلقة الوصل بين السماء والأرض، ولذلك يطلق على مدن الحضارات الشرقية القديمة مصطلح " المدينة المعبدية. وفي داخل تلك المعابد ظهر أعظم اختراع حضاري في منتصف الألفية الرابعة قبل الميلاد وهو اختراع الكتابة بسبب الحاجة إلى إيجاد وسيلة لتدوين واردات المعبد وأملاكه وبالطبع يعود الفضل في ذلك الاختراع لرجال الدين.
ومن أجل توضيح ما تقدم يمكن القول أن هذا الشكل السياسي الديني للمدينة في الحضارات الشرقية يشبه إلى حد كبير تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس الهرم السياسي والديني للدولة، وكان المسجد نواة المدينة ومنه تصدر القرارات السياسية والإدارية والعسكرية وغيرها.
أما في الفترة الأكادية فإننا نجد ملوك الأكاديين يركزون على الجانب الديني من أجل صبغ حكمهم بالصبغة الشرعية وتدعيم ذلك الحكم. فالملك سرجون مؤسس الدولة الأكادية بقي أصله غامضاً وربما كان ذلك من أجل تعليل منحدره الإلهي، وهو يتحدث عن طفولته ويقول أن أمه كاهنة عليا في المعبدEntum ألقته في النهر، ثم نشأ وترعرع في مدينة كيش وهي المدينة التي نزلت عليها الملكية من السماء بعد الطوفان، وعندما أصبح شاباً عمل ساقياً عند (زابابا) إله الحرب في مدينة كيش، ثم اكتسب حب الآلهة عشتار ونال رضا الإله مردوخ كبير الآلهة عند البابليين.
وهذه القصة التي كتبها سرجون عن نفسه تعتبر أقدم نص تاريخي يسجل دعوى تلقي الحكام للحكم والسلطة من الآلهة وذلك من أجل إضفاء الشرعية الدينية على تسلمه زمام الحكم في الدولة الأكادية وأنه نائب عن الآلهة في الأرض. أما حفيده الملك نارام سن فقد اهتم بالجانب الديني بشكل لم يسبق له مثيل حيث قام بما يلي:
1- وضع أمام اسمه في النصوص المدونة إشارة النجمة وهي الاشارة التي تدل على الألوهية وسار على هذا النهج عدد من الملوك الذين جاءوا بعده.
2- لقب نفسه ( إله أكاد) وهذه بدعة جديدة جاء بها، وكانت أقرب ما تكون إلى الكفر والخروج على العرف الديني لأن الحكام في وادي الرافدين لم يتجاوزوا وهم في أوج عظمتهم حد التقديس والتأليه ولم ينسوا أنهم نواب عن الآلهة في حكم البشر.
تشير الأساطير السومرية القديمة بأن السومريين كانوا يعتقدون بأن الآلهة قد خلقت البشر حتى يقوموا على خدمتهم، وأن الإنسان بحاجة إلى الحكام الذين تختارهم الآلهة لتنفيذ قوانينها المقدسة. |
3- إن الملك سرجون وحفيده نارام سن اتخذوا لقب ملك الجهات الأربع (شار كبرات اربعيم) وهو لقب ذو مدلول ديني كبير من أجل تثبيت السلطان السياسي لأنه كان لقباً خاصاً ببعض الآلهة العظام بصفتهم أسياد الخليفة والكون، باتخاذ الملوك الأكاديين هذا اللقب أصبحوا ممثلين للآلهة في حكم البشر.
4- إن الملك نارام سن قد ظهر في لوحته الشهيرة ( مسلة النصر) التي تخلد انتصاره على قبائل (اللولوبي) وعلى رأسه الخوذة ذات القرنين، وهي رمز يخص لباس الآلهة فقط ولم يلبسها أحد ممن سبقه من الملوك.
إن الهالة الدينية التي أحاط بها ملوك أكد أنفسهم بشكل مبالغ فيه دفعت المؤرخين إلى اعتبار ذلك خروجاً عن الدين وكان سبباً رئيسياً في سقوط الدولة الأكادية على يد الجوتيين. أما في العصر البابلي القديم فإننا نشاهد لوحة الملك حمورابي واقفاً أمام الإله ( مردوخ) كبير آلهة بابل يتسلم منه الشريعة أو ما يسمى قانون حمورابي الذي يتكون من 250-280 مادة. يتبع…..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.