شعار قسم مدونات

إلى والدين.. في عقوقهم!

blogs-ابن

قال علي بن ابي طالب: "ربوا أبناءكم لزمان غير زمانكم". في الحديث عن أسس التربية وطرائق التنشئة من الصعب إيجاد تفسير واضح تقنيا وفعليا لماهية هذه الجاهزية التي نتحدث عنها وكيفية الوصول بهم لهذا البر المأمول. في الزمن الذي نعيش فيه التربية لم تعد مسؤولية الأباء فقط. العولمة والعالم المفتوح علينا بوسائل تواصله وإعلامه جعل من الأباء بقدر كبير مجرد مكملين لما قد ينشأ عليه الأبناء من مفاهيم وأفكار سبقهم الجميع بها إليهم سوى والديهم.

 

الجاهزية التي يحتاجها هذا الجيل هي شيء من الاستعداد لهذا الأمر تحديدا، أن يمتلكوا مهارات الانتقائية في تقبل واعتناق ما قد يلقونه في حياتهم. هم محتاجون إلى متسع كبير من المرونة يستطيعون فيه محاكمة هذا الكم الكبير جدا من الأفكار، المتباين جدا في محتواه وفي بعده عن واقعهم في أحيان كثيرة، محاكمته بعقل ومنطق يتسع ويستوعب منظومة معقدة لمجتمع يعيشون فيه وينتمون إليه، يحاكمهم بدوره ويحاكمونه.

عملية نقد ودراسة واستنتاج يحتاجون فيها لأفكار سليمة ومبادئ ساهمت في إنتاجها تجربتهم أنفسهم التي تماثل واقعهم، والتي ليس من الضرورة أن تفرضها عقلية أباء بعدت عنهم ثقافة وزمنا. هم بحاجة لمهارات تستطيع أن تنتج منهم تجربة إنسانية صحيحة، كاملة قبل كل شيء، تتوجها إخفاقاتها وعثراتها قبل نجاحاتها، فقط إن أتيحت لهم الفرصة.

الأسر التي لا تتقبل أبناءها بسلوكيات وعقليات لا تماثل بالضرورة موروثاتها الثقافية والاجتماعية، وتفرض عليهم إحياء القديم دونما نظرة لصلاحيته منطقا وإنسانية هذه تمارس عليهم رفضا

في بيوت اليوم الأبناء لن يكونوا مطلقا نسخا عن أباءهم كما كانوا هم يوما عن الجدود. سقف الرفض والاعتراض والصدام سيدنوا ويدنوا حتى يكاد يطبق على متسع العاطفة في علاقة ابن بوالده. ليس لأنه ابن عاق أو لأن الأخر أب فاشل، بل لأن الحياة التي تسارعت بنا واستحدثنا معها مقدرات أن نعيشها بما هو أفضل وأسلم دينا ودنيا لن تتوقف عند شأن التربية حتى يظل على ما هو عليه، قابعا في أواني التاريخ نتجرعه بمذاق السنون الطويلة العتيقة ونتوقع أن يكون طعمه سائغا مقبولا لنا.

الحياة التي يربي فيها أجيال بآليات خلت تجعل منهم ضحايا عقوق، هذه المرة ليس منهم لأبائهم إنما تلك التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم وللأبناء عقوق كذلك. الأسر التي لا تتقبل أبناءها بسلوكيات وعقليات لا تماثل بالضرورة موروثاتها الثقافية والاجتماعية التي بادت مع منشديها ومناديها القدامى، وتفرض عليهم إحياء القديم دونما نظرة لصلاحيته منطقا وإنسانية أو صلاحيته الزمنية، هذه تمارس عليهم رفضا تنتج عنه ظواهر قد تختلف في تمثلها، إلا أنها تتشابه في كونها بكل أشكالها صورة من صور الرفض والتمرد.

تمرد يحتاج لأعمق من نظرة تدمغه بسوء السلوك وقلة الأخلاق والعقوق، تمرد هذا الجيل مشاكل باتت تأخذ شكل العزلة والاكتئاب، الهجرة غير الشرعية ومراكب الموت المملؤة بأحلامهم، الإلحاد والتطرف، الفشل الذي نسمهم به ونلومهم عليه، الهروب إلى حيث الأوطان أرض وقلوب يحسبونها أكثر رحابة لأمالهم، حتى الانتحار، حين ينتحرون هم يتمردون! 

علينا أن نتفق جميعا على أن التربية محاولة سداد ومقاربة، فلنتفق إذن على جعلها سليمة المقصد، معافاة الأجواء، نمنحها غرس المحاولة، نسقيها حبا، وننتظر

الأسر التي تتباكى أو "لا تفعل" على أبنائها حين يتخذون هكذا خيارات لحياتهم فوتت على نفسها فرصة تقبلهم كشخص خلافا لما يتوقعون، فشقوا ما تيسر لهم من الطرق إلا حيث ينتمون أو يحتوون. هذه الأسر لربما نست أن تمارس معهم فضيلة الحب غير المشروط الكفيل جدا والكافي لأن نتقبل الاختلاف فيهم أيا كان فأغفلت بذلك أن تبادرهم فضيلة البر التي تنتظر منهم. 

بين الشقين حيث يمارس الوالدين أدوارهم متسلحين بيقين التجربة والخبرة ويرد الأبناء تتجاذبهم متغيرات الواقع والحداثة هناك منتصف تثبت فيه حقيقة أن الأباء لم يكونوا موعودين يوما بأبناء مثاليين ولا الأبناء كذلك، وأن ما نحتاجه هو أن نتفق جميعا على أنها محاولة سداد ومقاربة، فلنتفق إذن على جعلها سليمة المقصد، معافاة الأجواء، نمنحها غرس المحاولة، نسقيها حبا، وننتظر …!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.