كان لابد للموجة الأولى من ثورات الربيع العربي أن تكون هكذا، مترددة مشتتة، لا تملك قائداً، ويسهل تسلقها والركوب معها فهي لم تعرف بعد عدوها من صديقها، هي هكذا لم يكن من سبيل لإنضاجها وقد غابت التجربة عن أبطالها فقد استطاع العسكر في مصر أن يرافقها إلى مربع المسار الديمقراطي والتغيير السلمي للحكم محتفظاً بقدرته على الانقضاض عليها في أقرب فرصة، بينما في سوريا تم سحب الثورة مباشرة إلى مربع العسكرة والقتال قبل أن ترتب صفوفها، ليتم فتح ساحة القتال لكل مراهق يحسب المعركة فقط معركة سلاح ونشيد وحماسة دون وعي يرادفه ترابط وتماسك وثبات!
أدوات الثورة المضادة وقادتهم خلف المحيط يعلمون جيداً، أنه يجب الإجهاز على بقايا ثورة الربيع العربي، فالسنن الجارية تخبرنا أن الموجة الارتدادية للثورة تكون حاسمة لأن أوهام التجربة الأولى قد انقشعت، وسذاجة البداية قد زالت، وليس أدلّ على ذلك من الثورة الإيرانية إذ تعتبر ثورة 79 هي موجة ارتدادية عن ثورة 53 التي انقلب فيها الشاه "دهلوي" على رئيس الحكومة المنتخب "محمد مصدق" واعتقله.
تكون الموجة الارتدادية للثورة أكثر وعياً ومعرفة بأصدقائها وأعدائها، فلا يتمكن المتسلقون من امتطائها مجدداً بعد أن انكشف زيفهم في المرة الأولى، كما أن الحصول على قيادة ملهة للثورة أصبح أمراً سهلاً حيث يكفي أن يتصدر لها من كانت تشير نحوهم سهام الثورة المضادة.
يمكننا فهم سر هذا التهور في الهجوم على قطر وحشد رعاة الثورة المضادة ضدها لنزع سلاحها الدبلوماسي والإعلامي، ومن ثمّ الإجهاز على الثوار في مصر والشام وليبيا واليمن دون الضجة المتوقعة لو حصل ذلك بوجود إعلام قطر |
المخيف فيما يجري اليوم هو أن الثورة المضادة تدرك هذه السنة أكثر من الثوار الذين أثخنتهم الجراح، وقد حسَم أولئك الماكرون أمرهم واستبقوا المواجهة الثانية وقرروا تصفية حسابهم مع بقايا الثورة لأنهم يعلمون أن مصيرهم سيكون بائساً فيما لو ارتدت الثورة عليهم مرة أخرى، ويبدو أنهم فهموا الدور الذي لعبته غزة وهي تثبت تحت الرصاص المصبوب لتكون مرجلاً يشعل الثورة في صدور الأحرار الذين عجزت الأنظمة البائدة عن تدجينهم، وقد فهموا أيضاً أن قطر وإعلامها الرائد ودبلوماسيتها الفخمة قد صنعت للثورة وعياً ومنبراً لتوحيد الجهود ورص الصفوف.
في هذا السياق يمكننا فهم سر هذا التهور في الهجوم على قطر وحشد رعاة الثورة المضادة ضدها لنزع سلاحها الدبلوماسي والإعلامي، ومن ثمّ الإجهاز على الثوار في مصر والشام وليبيا واليمن دون الضجة المتوقعة لو حصل ذلك بوجود إعلام قطر وقوتها الناعمة التي تفوقت على القوة العسكرية التقليدية.
لكن يبدو أن الخطة لم تمضي كما يجب، فقد امتصت قطر الضربة الأولى وباشرت الجزيرة هوايتها في كشف التضليل وإشعال فتيل الوعي ليرتد الأمر في وجوههم، وقد أدركوا أنهم أخطأوا حين ربطوا هجومهم على قطر بدعمها لحماس، فقد تصدرت الوسوم على مواقع التواصل الاجتماعي بالدفاع عن حماس والتأكيد أنها مقاومة للمحتل وليست إرهابية، وربما يكون قرارهم الآن هو التراجع عن هذا الربط ومحاولة تأجيل المعركة مع غزة وحماس إلى حين القضاء على بقايا الربيع العربي، فتكون معركتهم تبدأ بقطر ثم القضاء على الرئيس مرسي وقادة الإخوان في مصر ثم الإجهاز على ثوار ليبيا وعلى إصلاح اليمن، ويكون ذلك سهلاً في غياب الجزيرة، لتبقى لهم بعد ذلك غزة لقمة سائغة لا يحدث البطش بها أي انتفاضات أو ثورات..
يبدو أن هذه هي ملامح خطتهم ولكن أمر الله غالب، فقد تعثروا في الخطوة الأولى مع قطر وهم من قبلها فشلوا في الانقلاب على تركيا التي ستستمر في ازعاجهم وإفشال مكرهم على نار هادئة، ولنعلم أنه لا يحيق المكر السيء إلا بأهله وأن الله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.