في أيام كهذه الأيام، منذ سبع سنوات، بدأت صورة الشهيد خالد سعيد تنتشر على صفحات الفيس بوك، أعني صورته وقد ظهرت فيها آثار التشريح وآثار تهشيم رأسه. فيما أذكر، كانت المرة الأولى التي شكّل فيها الفيس بوك نوعا من الرأي العام المصري، الذي امتد خارج الفيس بوك. لم يكن أحد مستعدا لذلك، لا نظام مبارك، ولا النشطاء. قبل ذلك، كانت المدونات متنفسا للشباب المهتم بالشأن العام، وطوّر المدونون أساليب تواصل جديدة، وكشفوا فضائح، كالتحرش الجماعي في الأعياد، تجاهلها الإعلام الرسمي تماما. كان ذلك رائعا، لولا أنه، على الأغلب، لم يمتد إلى خارج عالم المدونات.
لماذا ساهم وجه خالد في تأجيج هذا الغضب كله بينما تنتشر هذه الأيام صور أشد مأساوية لوجوه شهداء تعذيب وإهمال طبي في السجون وقتل خارج القانون، فلا يكاد ذلك يثير شيئا على الفيس بوك وتويتر وغيرهما، |
بحلول يونيو 2010 كانت البوابات الإلكترونية للمصري اليوم والشروق وبعض الصحف المستقلة، تتابع الفيس بوك وتتناول بعض ما يجول فيه. صنع ذلك زخما إضافيا لقضية خالد. شباب كثيرون انفتح لهم فضاء للفعل السياسي. لاحظت غضبا يشتد ويتراكم على الفضاء "الفيس بوكي"، من خلاله دعا شباب لا أعرفهم لوقفة بعد صلاة الغائب على روح خالد بمسجد سيدي جابر بالإسكندرية. كانت وقفة حاشدة بمعايير الحشد وقتها. انطلقت الوقفات وتنوعت تكتيكاتها وأماكنها في محافظات مصر.
الذي أفكر فيه الآن، هو ذلك التكوين العجيب لنفوس البشر، وهو عجيب بمعايير هذه الأيام فحسب. لماذا ساهم وجه خالد في تأجيج هذا الغضب كله بينما تنتشر هذه الأيام صور أشد مأساوية لوجوه شهداء تعذيب وإهمال طبي في السجون وقتل خارج القانون، فلا يكاد ذلك يثير شيئا على الفيس بوك وتويتر وغيرهما، مع أن هذه الصور كثرت واختلفت أعمار ضحاياها؛ من العم مجدي مكين إلى الفتى كريم مدحت، مرورا بشباب كادحين مثل دَرْبَكه سائق التوكتوك وشباب يدرسون الطب كالطالب أحمد مدحت، وانتهاء بطالبة مثل سندس رضا أو شابة كشيماء الصباغ. بعض هؤلاء حلموا بواقع سياسي أفضل، بعضهم حلموا بحصيلة يومية جيدة من عمل التوكتوك (دراجة بخارية بسيطة ورخيصة، تُستخدم وسيلة مواصلات في المناطق الفقيرة).
ثمة أكثر من ذلك: تسبّب ضرب ماهينور المصري وكسر نظارتها أمام قسم سيدي جابر في احتقان شديد، وكانت صورة شاب جُرِح فوق عينه في وقفة أمام بيت خالد، مثيرة لغضب ملموس على الفيس بوك، بل كانت الوقفات التي يحتشد فيها أقل من مائتي شاب حدثا تتلقاه البوابات الإلكترونية بحفاوة. الآن ثمة مدوّنون يحاولون، بدأب، التذكير بقصص مروعة لشهداء ومعتقلين بغير استجابة ملموسة.
أفكر فيما يقوله بعض مؤرخي الثورات في أنها، على نحو ما، نوع من الحرب الأهلية بين طبقات ترفض شروط توزيع الثروة والسلطة، وطبقات ترى نفسها مستفيدة من تلك الشروط، ولو على نحو مضلل، كالذين يعارضون أي حراك خوفا من فوضى مدمرة، بينما أحوال معيشتهم تتهاوى إلى قاع سحيق. بهذا المعنى يتراوح الحراك الاجتماعي ثورة وخمودا حتى يفرز الصراع شروطا معيشية أفضل. ربما لا يكون النموذج المصري مطابقا للنماذج المعروفة، وربما يشابهها في الإطار العام بينما يكمن الشيطان في التفاصيل الصغيرة المرعبة.
ربما بعد زمن لا أعرفه، وخسارات لا أتصورها، يأتي يوم يحقق فيه هؤلاء بعض حلمهم: أن تصبح حياتنا أكثر إنسانية. |
بهذا المعنى يرتبط جلال الاستشهاد بالحلم الذي مثّله الشهيد في العقل الجمعي، لذلك تسابق الناس في تكريم شهداء ثورة يناير بعدها، حين رأوهم سبيلا للتقدم والرخاء، وحين اقترن فعل التظاهر في العقل الجمعي بتدهور مستوى المعيشة لم يعد كثيرون يذكرون الشهداء، أو ربما ذكروهم بغير الخير. الذي يرعبني الآن هو ملاحظة كيف يضاعف هذا التدهور من الاستهانة بأرواح الناس، كيف يحرّض بشرا على اتهام ضحايا مركب رشيد باستسهال الهجرة ولومهم، مع أن كل ذي عينين يرى كيف يلجأ الضحايا إلى هذه الهجرة حين ييأسون تماما من حياة تشبه الحياة، فلا ترعى الدولة حقوقهم، ولا تحميهم من إجرام السماسرة والمهربين.
على أن هذه الاختلالات العبثية عامة لدى الشعوب، في مثل هذه المراحل المضطربة، رصدها علماء اجتماع عديدون منذ غوستاف لوبون وربما قبله.
السؤال الذي لن أجد له إجابة هو سؤال هؤلاء الأمهات اللاتي أثكلهن فقد أبنائهن (من أي تيار، بغير فرق)، وبعد أن كان الشباب، والمسئولون أحيانا، يحرصون على تكريمهن بالزيارات والتصريحات.. لم يعد أحد يذكر أبناءهن إلا قليلا، بل ربما تطاول عليهم إعلامي منزوع الضمير. هؤلاء الأمهات كيف يعشن؟ وهؤلاء الذين فقدوا عيونهم، هل تصالحوا مع هذا الظلام السرمدي؟ وكيف لا يجرؤون على إعلان سبب إصابتهم لربما كان سامعهم كارها للحرية؟ أدرك أن متطلبات العمل السياسي الآن تقتضي توعية الناس بإهدار حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية وأسباب ذلك.. غير أني لا أستطيع الفكاك من هذا السؤال.
ربما بعد زمن لا أعرفه، وخسارات لا أتصورها، يأتي يوم يحقق فيه هؤلاء بعض حلمهم: أن تصبح حياتنا أكثر إنسانية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.