رد على مقال الدكتور أيمن العتوم المنشور على مدونات الجزيرة يوم الجمُعة 2/6/2017 بعنوان "المنصف المرزوقي ذلك المسكين" بدايةً، ينبغي الاعتراف بأن المتنبي هو أكبر شعراء العربية على الإطلاق، ولكن هذه الحقيقة لا تمنع من توجيه سهام النقد له. وللأسف الشديد، فقد حاول الدكتور العتوم تقديم المتنبي باعتباره معصوماً عن الأخطاء والخطايا ومُنَزَّهاً عن العيوب. وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى تَمَسُّك الدكتور العتوم بالقصيدة العمودية، واعتبارها الشكل الوحيد الذي يُعبِّر عن التراث الشِّعري العربي. وكما قِيل: وعَيْنُ الرِّضا عَن كُلِّ عَيْبٍ كَليلةٌ.
وقد كتبتُ هذا الرد بشكل مُوجَز وسريع على شكل ملاحظات دون الخوض في التفاصيل:
أولاً: قام الدكتور العتوم باختيار أبيات للمتنبي بشكل انتقائي تَدعم وجهة نظره، وهذا منهج اجتزائي يعتمد على الجزئيات وليس المجموع الكُلِّي. والعِبرة تكمن في الاتِّجاه العام في شِعر المتنبي الذي يتمحور حول تضخيم الذات وتعظيم الأنا العُليا. أمّا النادرُ فلا حُكم له، خصوصاً إذا عَلِمْنا أن ديوان المتنبي يشتمل على أكثر من ستة آلاف بَيت. فهل كل هذه الأبيات تَدعو إلى الحِكمة، وتُحلِّل النفس البشرية؟ بالطبع لا.
قام المتنبي بمدح كافور الإخشيدي طمعاً في الحصول على بعض المكاسب الشخصية، وحِينَ لَم يحصل عليها، قام بِذَمّه وهجائه. لقد جَمع بين مدح الشخص وذَمّه. وهذا تناقض وموقف يُسيء إلى سُمعة المتنبي قبل سُمعة كافور الإخشيدي. |
ثانياً: وقع الدكتور العتوم في نفس الخطأ الذي وقع فيه الدكتور المرزوقي، وهو التعالي والفَوقية، وهذا واضح في كلام الدكتور العتوم: ((والحقيقة أنَّ هذه القراءة العامة التي وقع فيها الأقدمون والمُحدَثون مِمّن عرضوا للمتنبي تدل على أنهم لَم يعرفوه)). فالعلماء والنقادُ الأقدمون والْمُحدَثون الذين ألَّفوا آلاف الكتب عن حياة المتنبي وشِعره على مدار أكثر من عشرة قرون -من وجهة نظر الدكتور العتوم- لَم يَعرفوا المتنبي. وَحْدَه الدكتور العتوم -الذي لَم يُؤلِّف كتاباً واحداً في النقد الأدبي وهو الحاصل على الدكتوراه في اللغة العربية- هو الذي تَمَكَّن من معرفة المتنبي! لسان حاله يَقول هذا.
ثالثاً: قال الدكتور العتوم: ((ثُمّ ألا يسوقُكَ قوله: وليسَ يَصِحُّ في الأَفْهامِ شَيْءٌ.. إذا احْتاجَ النهارُ إلى دَليلِ، إلى قاعدةٍ بنى عليها الشافعي في فِقهه قوله: ما جادلتُ عالِمًا إلا غلبْتُه، وما جادلتُ سفيهًا إلا غلبني)). سياق الكلام يُشير وكأن الشافعي استفاد من المتنبي واقتبسَ مِنه. وهذا غير معقول لأن الشافعي وُلد قبل المتنبي بمئة وخمسين سنة تقريباً. كما أن هذه العبارة المشهورة تُنسَب إلى الشافعي، ولا دليل على صِحَّة هذه النِّسبة، وكُلُّ مَن يَذكرها، يَذكرها بدون مصدر، والدكتور العتوم واحد مِنهم. ولو أردنا المضيَّ مع الدكتور العتوم فإن المتنبي هو الذي أخذَ معنى العبارة، ووضعها في شِعره، وليس العكس. فاللاحق مُتأثِّر بالسابق.
رابعاً: قال الدكتور العتوم: ((لَوْ كان (أنا) المتنبي هي التي يدور عليها شِعره لمات شعره عند أناه هذه منذ زمنٍ بعيد، لأنّ كُل مَنْ يَدور حول نَفْسه يضمحل ويذوب، وَلَوْ كانت الفكرة التي بنى عليها المرزوقي مدوّنته صحيحةً لما وصلَ إلينا شِعره، ولمات بعد مئة عامٍ على أبعد تقدير)). هذا الكلام يشتمل على أخطاء منهجية، فليس كُل مَن يدور حول نَفْسِه يضمحل ويذوب. فمثلاً، امرؤ القَيس تَدور مُعلَّقته حَوْلَ نَفْسه ومُغامراته وغرامياته، فلماذا لَم تضمحل المعلَّقة؟ وفي عصرنا الحالي، الشاعر نزار قباني قَدَّمَ نَفْسَه كَفَحْل الفُحول، ومُحطِّم قلوب النساء، وكل شِعره يَدور نَفْسِه وتعظيم الأنا العُليا. بل إِن هناك نُقّاداً اتَّهموا نزار قباني بالنرجسية! فلماذا لَم يضمحل شِعره؟ لقد ازدادَ انتشاراً وشُهرةً.
خامساً: قال الدكتور العتوم: ((أفلم يسأل الأستاذ المرزوقيّ نفسه لماذا عاش المتنبي إلى اليوم، ولماذا سيعيشُ إلى آخر الزمان؟ إنّ الذي خلّده، وجعله يستمر هو أنّه عرفَ كيفَ يُخاطِبُ النَّفْسَ بكل تناقضاتها، ويُعرّيها بكل فضائلها ورذائلها، ويُبرِز صراعاتها المُتعدّدة)). إنَّ الدكتور العتوم يخلط بين انتشار الشِّعر وجَودة الشِّعر. فنقول له إِنَّ الشِّعر بطبيعته خالد لا يموت، وسيصل إلَينا عاجلاً أو آجِلاً. والتاريخُ حَمَلَ إلَينا الأشعارَ الصالحة والفاسدة على السَّواء. فمثلاً عمر بن أبي ربيعة (أوَّل مَن وَصف القِوادة في الشِّعر العربي) ما زال شِعره خالداً حتى يَومنا الحالي، وأبو نُواس (أكبر شعراء الخمرة في الأدب العربي)، وابن الفارض (شاعر الحلول والاتِّحاد الذي يُعلِن في شِعره اتِّحادَه باللهِ تعالى)، وغَيرهم كثير لا يَزال شِعرهم خالداً. أفلم يَسأل الدكتور العتوم نَفْسَه لماذا عاش هؤلاء إلى اليوم، ولماذا لَم ينقرضوا ويذوب شِعرهم مع مرور الأيام؟
سادساً: قال الدكتور العتوم: (ألَم يَفخر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بهذه (الأنا) حِينَ رَدَّدَ في المعركة: "أنا النبيُّ لا كَذِب، أنا ابنُ عبد المطَّلب") الحديث صحيح (متفق عليه) لكنَّ الدكتور العتوم أخطأ في تفسيره، فالنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَم يَفخر بهذه (الأنا). ومعنى الحديث: أنا النبيُّ حقاً وصِدقاً، فلا أفِرُّ من المعركة ولا أزُول. قال النووي في شرحه على صحيح مسلم (12/ 120): ((وفي هذا دليل على جواز قول الإنسان في الحرب: أنا فلان وأنا ابنُ فلان.. وأشباه ذلك، وقد صَرَّح بجوازه علماء السَّلف، قالوا: وإنما يُكرَه قول ذلك على وجه الافتخار كَفِعل الجاهلية)).
إذن، القِياس مع الفارق باطل. ولا يَصِحُّ استشهادك بالحديث النبويّ. وأينَ أنتَ من قَول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "فأنا سَيِّدُ وَلَدِ آدم ولا فَخْر"(رواه ابن حبان في صحيحه). انظر إلى تواضع النبيِّ الذي يتجلى في عبارة "ولا فَخْر". فَحَبَّذا لو اقتدى بِه المتنبي! وأينَ أنتَ مِن قَول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إذا رأيتُم المدَّاحين فاحْثُوا في وجوههم التراب"(رواه مسلم في صحيحه).
يجب ألا تنفصل شخصية الشاعر عن شِعره. فالشِّعر رسالة، والشاعرُ حامل هذه الرسالة. والهدفُ النبيلُ لا بُدَّ أن يَكون طريقُه نظيفاً، والغايةُ لا تُبرِّر الوسيلةَ. |
سابعاً: لَم يكن الدكتور العتوم دقيقاً في نقل الكلام المنسوب إلى عُمر بن عبد العزيز. والصواب ما قاله ابن كثير في البداية والنهاية (9/ 184): ((يُقال إنه خَطب الناسَ فقال في خُطبته: أيها الناس إِنَّ لي نَفْساً تَوَّاقة، لا تُعطَى شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أعلى منه، وإني لَمَّا أُعْطِيت الخلافة، تاقت نَفْسي إلى ما هو أعلى منها، وهي الجنة، فأعينوني عليها يرحمكم الله)). وبالتالي، لا مجال للمُقارَنة بين طموح عمر بن عبد العزيز (الآخرة) وطموح المتنبي (الدنيا). وهذا يدل على خطأ الدكتور العتوم حِين قال: ((بل إن ما كان يطمح إليه المتنبي هو ذاته الذي كان يطمح إليه عمر بن عبد العزيز وهو الإمارة)). هذا كلام غير صحيح، لأن القياس مع الفارق باطل.
ثامناً: لقد قام المتنبي بمدح كافور الإخشيدي طمعاً في الحصول على بعض المكاسب الشخصية، وحِينَ لَم يحصل عليها، قام بِذَمّه وهجائه. لقد جَمع بين مدح الشخص وذَمّه. وهذا تناقض وموقف يُسيء إلى سُمعة المتنبي قبل سُمعة كافور الإخشيدي. وحَبَّذا لو أخْبَرَنا الدكتور العتوم بتفسيره لهذا الموقف المتناقض.
ونختم بما قاله الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن (ص 114): ((رُوِيَ أنَّ عمر بن الخطاب -رضي اللهُ عنه- وَصَفَ زُهَيراً فقال: كان لا يَمدح الرَّجُلَ إلا بِما فيه)). وهذا يدل على الفرق الجوهريِّ بين زُهَير بن أبي سُلمى والمتنبي، دون عَقْد مُقارَنة شِعرية بينهما. لذلك، يجب ألا تنفصل شخصية الشاعر عن شِعره. فالشِّعر رسالة، والشاعرُ حامل هذه الرسالة. والهدفُ النبيلُ لا بُدَّ أن يَكون طريقُه نظيفاً، والغايةُ لا تُبرِّر الوسيلةَ.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.