شعار قسم مدونات

المشاريع الحرة والمقاولتية

blogs - موظفين شباب
عملت الدولة الجزائرية منذ تخليها عن النهج الاشتراكي وتحولها إلى اقتصاد السوق؛ على دعم المشاريع الاستثمارية والأعمال الحرة والمقاولتية، وأنشأت لهذا الغرض مؤسسات عدة للدعم والمرافقة مثل: ANGEM.ANSEJ.ANDI.CNAC ، وأقامت دُور المقاولتية على مستوى الجامعات، لكن على الرغم من المبالغ الهائلة المصروفة على هذه المؤسسات إلى أن فعاليتها لازالت محدودة.

وعلى ما يبدو أنَّ مِنْ أسباب عدم نجاعة هذه المؤسسات هي تركيزها على المقاربة الاقتصادية (توفير التمويل لأصحاب المشاريع)، وبدرجة ثانية على جانب التكوين على إعداد دراسات الجدوى وطرائق التسيير، مُغْفِلَة جوانب أخرى جد مهمة، ألا وهي الجوانب السوسيو-ثقافية والجوانب النفسية-الاجتماعية المتعلقة بطبيعة وثقافة المجتمع والأفراد أصحاب المشاريع.

فالمشاريع الحرة تتطلب جهدا ووقتا وتفكيرا وإصرارا، وتحتاج لفعالية كبيرة لدى الأفراد، والفعالية متعلقة بصفة عامة بأسلوب حياة المجتمع. فكيف لمجتمع تنتشر فيه "القابلية للاستعمار" (التي هي العجز عن القيام بأي جهد اجتماعي في أبسط تعاريفها) أن يُنْشِئ ويؤسس مشاريع ومقاولات؟ وقد نَبَّهَ مالك بن نبي على هذا الجانب واعتبره المعرقل الأساسي لمختلف المبادرات والأنشطة، حيث قال: ".. وهكذا كلما حاولنا تصنيف مختلف أسباب (الكف) التي تعرقل ضروب النشاط في العالم الإسلامي الحديث والتي تشد تطوره إلى نسق مُتَلَكِئ، والتي تزرع القلق والضجر وأخيرًا الفوضى في حياته، وَجَدْت أن الأسباب الداخلية التي تنتج عن القابلية للاستعمار ذات الشوكة والغلب".

وكيف لمجتمع تُعَشْعِشُ في وجدانه فكرة "الزهد" أن يتبنى ثقافة المقاولتية التي هي نتاج بيئات فكرها الاقتصادي مبني على فكرة الحاجة (الاشتراكية) أو فكرة المنفعة (الرأسمالية)؟ وكيف لمجتمع استهلاكي يقلد كل شيء: يقلد الحاجات الواردة ويقلد الوسائل المستوردة التي أفرزتها حياة غيره ولا يفكر في صنعها، أن ينتج ما يُشْبِعُ حاجاته؟ وكيف لمجتمع يعاني من كساح عقلي مزمن، وفي أفضل الأحوال كسل فكري أن يؤسس فكرًا مقاولاتيًا الذي هو إيجاد حلول وإبداع وابتكار لمنتجات وخدمات ووسائل تشبع احتياجات المجتمع ورغباته ومطالبه؟

الأمر يتطلب عمليات صب للفكر المقاولاتي والمشاريعي في عقلية الفرد الجزائري ونفسيته وترجمته في حركته وفي مختلف دروب نشاطه، وعمليات تطعيم ثقافي للمجتمع يُمَكِّنُهُ من استعمال إمكاناته الذهنية والجسمية لإنجاح أي مخطط اقتصادي.

وكيف لمجتمع تنتشر فيه "عقلية الوظيفة" ويُشَجِعُ على الكسل والتكاسل، بل ويهاجم فيه الكسول من يحاول أن يعمل ويتهمه بالتقصير، ويعيش طور الحضارة البدائي، ويبذل الحد الأدنى من الجهد، أن يتأقلم مع الحياة النشطة والمنافسة الحادة والشرسة؟ وعن هذا أيضا يتحدث الأستاذ مالك، ويقول: ".. ففي المرحلة الحضارية البدائية يتعامل الإنسان مع البيئة ويتوافق بالحد الأدنى من الجهد، أما في طور الحياة الناشطة فإن الإنسان يحقق توافقه ببذل الحد الأقصى من الجهد في تنظيم نفسه.

وكيف لمجتمع يعيش بثقافة "الريع" و"ملك البايلك" وشعارات من قَبِيل "أَحْيِنِي اليوم واقتلني غدًا" أن يؤسس لمشاريع ولثقافة المقاولتية التي هي نتاج تفاعل اجتماعي وتخطيط اقتصادي ونظرة طويلة المدى؟

من خلال ما سبق ذكره نخلص أنَّ القضية ليست قضية برنامج اقتصادي وإنشاء مؤسسات الدعم والمرافقة فقط، فهي أولا ذات طابع نفسي، كما شَخَصَّهَا مالك بن نبي في كتابه "المسلم في عالم الاقتصاد"، فالمعنى الاقتصادي لم يظفر في ضمير المجتمع الجزائري بالنمو نفسه الذي ظفر به في ضمير وحياة المجتمع الغربي.

والأمر يتطلب عمليات صب للفكر المقاولاتي والمشاريعي في وجدان ووعي وعقلية الفرد الجزائري ونفسيته وترجمته في حركته وفي مختلف دروب نشاطه، وعمليات تطعيم ثقافي للمجتمع يُمَكِّنُهُ من استعمال إمكاناته الذهنية والجسمية لإنجاح أي مخطط اقتصادي، ويتطلب هذا الأمر توظيف واستغلال مؤسسات التنشئة الاجتماعية ابتداءً من الأسرة مرورًا بالمدرسة والمؤسسات التعليمية وصولًا إلى الإعلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.