التأسيس القطبي للحركة الإسلامية:
بعد إجهاض فكرة الجماعة على يد المد القومي العربي، ظهر الأستاذ سيد قطب يطالب بالبناء بمعزل عن التحديات الخارجية، طالب بإنشاء النواة الصلبة إيمانا بأن مجرد تكون النواة الصلبة يكفي لتنزل النصر عليهم، ولم يعط اهتمامًا بالتحديات الخارجية مع وعيه الشديد بها.
والفكرة في ذاتها صائبة حين تعرض على النموذج الأول (الرسول صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين) مع الأخذ في الاعتبار أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يهمل التحديات جملة، ومع الأخذ في الاعتبار أن نموذج البعثة والخلافة الراشدة نموذج مثالي يستضاء به والتطبيق بعد ذلك نسبي ويخضع لمتطلبات الزمان والمكان وإمكانات الأشخاص.
حين جاءت ثورات الربيع العربي ظنوا أن بإمكانهم أسلمة الدولة القومية، وراحوا يطالبون أدوات، أو بالأحرى مخالب، الدولة القومية كمجلس النواب بتطبيق الشريعة، ظنوا أن بإمكانهم أسلمة الدولة القومية، أو استئناف الحياة الإسلامية من جديد من خلال الدولة القومية. |
تعثرت فكرة الأستاذ سيد قطب –رحمه الله- حال التطبيق. استشهد ولم يستطع أدنى تطبيق لفكرته، ثم تشعب المنتسبون للحركة الإسلامية حول فكرة تكوين النواة الصلبة فمنهم من استأنس بعشرات من أصحابه وراح يواجه المجتمع بالتكفير ويواجه الحكومات بالسلاح، ويستغني عن التعامل مع مؤسسات الدولة ويهجر المجتمع بعد أن كفره؛ ومنهم من راح يعمل على تصفية وتخلية المناهج العلمية طلبًا لتربية نواة صلبة على شيء نقي فكانت ما سمي بالسلفية العلمية والتي استدعت أو استقبلت المد السلفي القادم من الخليج (السلفية المنتسبة للشيخ محمد بن عبد الوهاب). فكأن الأستاذ سيد قطب كان التأسيس الحقيقي للمعاصرين حتى أولئك الذين يتطاولون عليه.
سؤال الدولة:
في طيات التأسيس القطبي للحركة الإسلامية تاهت فكرة الدولة، ولم يطرح سؤال الدولة في مرحلة التأسيس الثانية للحركات الإسلامية في السبعينيات؛ فقد انشغل الجميع ببناء "النواة الصلبة"، أو متطلباتها العلمية (التصفية والتخلية)، أو إعادة تأسيس الجماعة بعد أن هدمها المد الناصري.
وحين ندقق النظر نجد أن المشكلة في الإضافة السلفية القادمة من نجد للحركات الإسلامية، إذ إن حضور المد السلفي النجدي للبلدان الإسلامية مع ارتفاع أسعار النفط ومع الابتعاث للخليج وخاصة السعودية ورغبة دول الخليج في توظيف السلفية لإيجاد أزرع شعبوية في البلدان العربية، أدى كل ذلك إلى تمدد الفكر السلفي النجدي (دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله)، وقام المنتسبون لهذه الدعوة بتطعيم الحركات والتيارات الإسلامية بفكرة التدين الفردي كمرحلة أولية لتدين المجتمع، بمعنى الاهتمام بالشأن الخاص: الثياب، اللحية، الصلاة، بر الوالدين.. ولم تتطرق أصلًا لسؤال الدولة.. غرقت في التدين الفردي. وهو ما عرف بالسلفية العلمية لاحقًا.
وحين جاءت ثورات الربيع العربي ظنوا أن بإمكانهم أسلمة الدولة القومية، وراحوا يطالبون أدوات، أو بالأحرى مخالب، الدولة القومية كمجلس النواب بتطبيق الشريعة، ظنوا أن بإمكانهم أسلمة الدولة القومية، أو استئناف الحياة الإسلامية من جديد من خلال الدولة القومية، فكان أن صرعتهم الدولة القومية وتبين أنها هي بذاتها أحد أعداء الحركات الإسلامية.
وتبين أنهم في حالة مواجهة تامة مع الموجود على مستوى القيم، وعلى مستوى المؤسسات، ثم مستوى السلطة التي تدير هذه المؤسسات، وأنهم في الحقيقة بديل لما هو موجود وأن الصدام مع الموجود صدام وجود لا مساحة فيه للتعايش إلا في إطار التبعية المطلقة وهو ما يتعارض مع أصل الفكرة التي قامت عليها الحركات الإسلامية. لذا لا يمكن للحركة الإسلامية أن تتخلى عن فكرة استئناف الحياة الإسلامية من جديد، ولذا كمنت مكانها وهي الآن في حالة اندهاش وحيرة أو نقول: ارتباك. ولم تقدم مراجعة، ولم يخرج من صفها إلا أفراد.
لا يمكن للحركات الإسلامية، وهي إسلامية، أن تذوب وتترك هذا المسار، أو تهادن العلمانية كليةً، ذلك أنها بطبيعتها ذات فكرة رسولية.. دعوية.. أخرجت للناس تدعوهم لمبادئ وقيم مخالفة من حيث المجموع. |
والمناوشون للحركة الإسلامية من العلمانيين يحاولون وضعها في إطار إفراز لأزمات العلمانية في البلدان العربية ويطالبونها بالمراجعة والتراجع للاندماج في الصف العلماني، أو يهملونها في تحليلاتهم، وإن شاء الله أفرد مقالًا خاصًا بخطابات التغيير وتجاوب الحركات الإسلامية معها. وأعتقد أن ما قدمتُه في رسالة الماجستير وهو كتاب مطبوع بعنوان (تأثير المشاركة السياسية على الفكر السلفي في مصر)، نشرته دار (مفكرون – مصر) يعتبر نقطة انطلاق لوعي جديد للحركة الإسلامية وخاصة السلفية تجاه تفكير جديد من أجل استئناف الحياة الإسلامية من جديد، أو ما يقال عنه تطبيق الشريعة الإسلامية. ينطلق من الوعي بالتحديدات، أو بمحددات الحركات الإسلامية الخارجية والداخلية التي تعمل ضد الإسلاميين رغمًا عنهم، وعلى رأسها الدولة القومية والنظام العالمي، ثم البيئة الداخلية التي يعملون فيها (متدينون وعلمانيون، ونصارى).
أما الحديث عن تحولات جوهرية تتجه صوب التخلي عن فكرة استئناف الحياة الإسلامية من جديد فغير صحيح، إذ إن التحولات الكلية هذه تحدث من أفراد، وتحولات الجماعات تتمحور حول وسائل تستخدم لاستئناف الحياة الإسلامية وليس للتخلي عن الفكرة والتراجع للدمج في الصف العلماني. ولا يمكن للحركات الإسلامية، وهي إسلامية، أن تذوب وتترك هذا المسار، أو تهادن العلمانية كليةً، ذلك أنها بطبيعتها ذات فكرة رسولية.. دعوية.. أخرجت للناس تدعوهم لمبادئ وقيم مخالفة من حيث المجموع ومن حيث التطبيق لما يطلبه الغرب ومن وافقه من العلمانيين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.