شعار قسم مدونات

فلسفة الصيام

مدونات - القرآن

رمضان شهر الصيام، أجل. لا اختلاف، وقد دأب العامّة على جعل العلة فيه الإحساس بمعاناة الفقراء، على الرغم من أن الفقير يصوم أيضا! فتنتفي إذن هذه العلّة. شهر رمضان شهر الإمساك عن الشهوات من الفجر إلى مغرب الشمس، وهي كما يعلم الجميع شهوات مادية، لكنّ الأثر الذي يبتغيه رمضان هي تلك التربية الروحية، فمن ذا الذي قد يسأل نفسه وهو صائم، ماذا استزدت روحيا بصيامي هذا عن الشهوات من مأكل ومشرب وجماع؟ 

رمضان إذن شهر الإمساك عن الشهوات المادية بغية الوصول إلى الرقي الروحي الوجداني، لا اختلاف؛ لكن كيف؟ إذ لا طالما علمنا الغاية ولم نعرف الكيفية، ولمّا كانت الغاية واضحة وهي تربية الروح، وكانت الكيفية غائبة، فلا غاية محصّلة، وتبعا عليه، لا استزادة ولا استفادة من رمضان، فيكون الصائم قد حصّل الغاية الصحية فقط، دون الغاية الروحية، ويكون قد خرج من رمضان كما دخل إليه، على الأقل روحيا.

وما كان لامرئ أن يرصد الكيفية التي تُتحصّل بها الغاية الروحية إلّا من الروح، يقول جل في علاه: "وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا" (الشورى 52). ولذلك فإن فهم فلسفة رمضان يقتضي العودة إلى الكيفية التي تحدث بها القرآن الروح عن رمضان، إذ العجيب في أمر القرآن، وهو الذي لا تنقضي عجائبه، أن كلمة رمضان ذُكرت مرة واحدة، دلالة على حصر معنى رمضان، يقول تعالى: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ" (البقرة 185).

لقد جُعل لنا رمضان لمراجعة هذه النفس الأمّارة، وجعل شهر القرآن لتفيض علينا أنوار هذا القرآن حتى تُرقّى النفس من الدركات إلى الدرجات

إذ لم يأت تعريف شهر رمضان بكونه شهر إمساك عن الطعام، وإنما بكونه شهر القرآن، بل إن كلمتي الصيام المذكورتين في سورة البقرة، حددتا الغاية من الصيام ومن رمضان ككل (على اعتبار أن رمضان إطار زمني عام والصيام إطار زمني خاص من فجر اليوم إلى غروبه)، حددتا الغاية بالتقوى (انظر الآيتين 183 و 187). ومعلوم أن خير الزاد التقوى، فيا حسرة على من ولج رمضان ولم يستزد بالتقوى!

ها هو رمضان، وها هو الإمساك عن الشهوات، وها هو القرآن، كلّها مسلّمات أمامنا لا يختلف اثنان من المسلمين في الاتفاق حولها، ولكن قد يختلف الاثنان والثلاثة والسبعة في تناولها، ذلك أن الولوج إلى رمضان يقتضي الانطلاق من القرآن بالموازاة مع الإمساك عن الشهوات، وليس الإمساك عن القرآن أيضا، وربّ قائل يعترض، أن أغلب المسلمين يقومون بختم القرآن في هذا الشهر، وهذا عين ما قصدت بالاختلاف، بحيث إذا اتفقنا على أن هذا الشهر شهر القرآن، وهو من البديهيات، فإننا يجب أن نعيد خلخلة مسلّمة أخرى، هي طريقة تعاملنا مع هذا القرآن عموما وفي هذا الشهر على وجه الخصوص، ذلك أن المستقرئ للقرآن يجد أن غاية تنزُّلِه هي ليدّبروا آياته، ولذلك فإن التربية الروحية في شهر رمضان تعني الإمساك عن الشهوات والإقبال على هذا الروح حتى تتشبّع من روحه، ولا يكون الإقبال على هذا الروح إلا بالمنهج الذي سطّره القرآن وشخّصته السيرة، وهو منهج التدبر في القرآن، فالتخلق به، فإذا اجتمع الإمساك عن شهوات الروح البشرية، والإقبال على درجات الروح الفيّاضة، جعلوا لنا صائما بالمعنى الكامل للكلمة، وشخصا جديدا غير الذي كان، وكذلك كان، وهو ما نرجو أن يكون.

لقد جُعل لنا رمضان لمراجعة هذه النفس الأمّارة، وجعل شهر القرآن لتفيض علينا أنوار هذا القرآن حتى تُرقّى النفس من الدركات إلى الدرجات. إن هذا الشهرَ شهرُ التربية الروحية، التي لا تتأتى إلا بإدراك هذه الحقيقة، وإدراك الحقيقة يتطلب إدراك منبع الحقيقة، وما منبع الحقيقة إلا كلمات الله، يقول جلّ وعلا: "قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً" (الكهف 109)، فما هي كلمات الله؟ أهي كلمات القرآن؟ كلّا، إذ أن كلمات القرآن معدودة وها هي ذي الآية تقرّر أن كلمات الله تنفذ.

 

إن قراءة الورد وختم القرآن مرة أو مرتين في شهر القرآن، على حسناتها وخيراتها، ليس هو المطلوب في الحقيقة، بقدر ما أن المطلوب هو تدبّر القرآن والتخلّق به

إن كلمات الله هي تلك المعاني الفيّاضة التي تدرك تدبّرا بقلب سليم، فتجتمع بحمة الله البالغة بأثر الإمساك عن الشهوات فتخلق في النفس ما شاء الله أن تخلق، ولذلك كان وصف الله لرسوله الكريم: "وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ" (القلم 4) ذلك أن الخلق، ليس هو تلك الآداب التي يتميز بها الفرد، وإنما الخلق المقصود هي تلك الولادة الجديدة للنفس في تفاعلها بأنوار كلمات الله، ولك أن تعود للصلة اللغوي بين الخلق (بفتح الخاء وتسكين اللام) وبين الخلق (بضم الخاء واللام).

فإذا تقرّر ذلك، فإن قراءة الورد وختم القرآن مرة أو مرتين في شهر القرآن، على حسناتها وخيراتها، ليس هو المطلوب في الحقيقة، بقدر ما أن المطلوب هو تدبّر القرآن والتخلّق به في تفاعله النفسي مع المادي/الإمساك عن الشهوات، وإذا تقرر ذلك أيضا، يتقرر معه من جهة أخرى، أن الصيام شيء وأن الإمساك عن الشهوات شيء آخر تماما، بحيث لا يكون الصائم صائما إلا إذا أمسك عن الشهوات مأكلا ومشربا وجماعا وأقبل على الشرط الذي يقرّره القرآن وهو الإقبال على القرآن بمنهج القرآن وهو التدبر، فإذا تقرّر كلاهما، تقرّر معهما أننا يجب أن نعيد بناء مسلّماتنا من أن الصيام هو الإمساك عن الشهوات، إذ ليس الأمر كذلك البتّة!

رمضان فرصة إذن للترقّي الروحي شريطة تحصيل الشرط، وهو العودة للقرآن بمنهجه القويم، فإذا كان المشروط هو الصوم، فإن الشرط هو القرآن، وشرط الشرط هو تدبّر القرآن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.