شعار قسم مدونات

فتنةٌ يُراد لها

blogs فتنة

تعرض كل ديانة نفسها باعتبارها الطريق الوحيد إلى الله، وتدّعي امتلاكها للحقيقة كاملة وأنّ السبيل الوحيد للنجاة يكون باعتناق معتقداتها، فبينما ترتكز رؤية الإسلام على إلهٍ واحدٍ فردٍ صمد ونبيٍّ أميٍّ بُعث رحمةً للعالمين ووجب على المسلم التسليم بالخضوع والطاعة لله ورسوله، تعلّم المسيحية بأنّ الله واحدٌ ثلاثيُّ الأقانيم وأنّ الكتاب المقدّس هو كلمةُ الله التي لا عيب فيها، والخلاص لن تحصل عليه ولن تفقده بأعمالك، بل بإيمانك أنّ صلب المسيح كان كافيا لدفع ثمن خطيئتك. 

إذن، هي معتقداتٌ إيمانيّةٌ افترقت ولا سبيل لالتقائها، وتبنّيك إحداها معناه أنّك تتخلى عن الأخرى، وبما أنّ الكفر لا يكون إلّا إزاء قضيّة إيمانيّة معيّنة، فاعتناقك معتقدات الدين الإسلاميّ يحتّم عليك أن تكفر بغيره من الأديان، كذلك اعتقادك بدين المسيح معناه أنّك تكفر بالإسلام وما سواه، بهذه البساطة! 

 

وكمسلم، لا ينبغي لك أن تسير بين خلق الله ناعتا كلّ من يقابلك من أتباع الديانات الأخرى بالكافر، لكن إذا سُئلت فأفصح وأجب ولا تجامل. لا داعي للإنكار وليس هناك ما يُخجِل بأنّ الإسلام وصف بآيات صريحة أتباع الديانة المسيحية "غالبا ممن عُرض عليهم الإسلام ورفضوه" بالكافرين، والكفر لغةً هو الإنكار وعدم التصديق، يقابله لفظ "غير المؤمنين" في الكتاب المقدّس، فالمغزى واحد إذن.. أضيف أنّ سبيل الخلود في الجنّة والعتق من النار لدى المسلم هو تصديق رسالة الإسلام قولا وفعلا، أمّا أمر الأخيار من غير المسلمين مرجعه إليه عز وجل وليس لبشرٍ أن يفصل فيه قط، وهذه الفكرة أيضا هناك ما يقابلها في المسيحية وهي حصرية الخلاص، "فلا خلاص خارج الكنيسة" أو لا خلاص خارج المسيح كما وردت على لسان الأب مكاري يونان منذ أيام في إحدى ردوده على ما جرى. 

الفترات الصعبة والثقيلة التي تلي أيّ حدث إرهابي مهما كان هي بيئة خصبة للحاقدين من أيّ طرف كانوا، يتفننون بدسّ سمهم بالعسل وإثارة مزيدا من الفتن قد تكون هي الهدف الأسمى لمثل هذه الهجمات

من هذا المنطلق أتعجّب مما ثار في مصر منذ فترة في أعقاب تصريحات الأزهريّ سالم عبد الجليل، الذي جُرّم بازدراء الأديان ومُنع من الخطابة واتُّخذت في حقّه إجراءاتٌ عديدة. ذنبه الوحيد أنّه لم يقبل المجاملة في عقيدته، وتوجّه لغيره من المشايخ ينهاهم عن الاستمرار في "الطبطبة" على المسيحيين ونعتهم بالمؤمنين لما فيه من تزييف وتضليل وتثبيت لهم على عقيدتهم التي حتما يراها مجانبةً للصواب. بقوله هذا.. هل أتى بما لم يأتِ به الأوائل؟ أم يستحقّ ما حملوا كلامه عليه من طائفية وتفرقة عقب تفجير حافلتين للأقباط في صعيد مصر؟!

هذه الفترات الصعبة والثقيلة التي تلي أيّ حدث إرهابي مهما كان هي بيئة خصبة للحاقدين من أيّ طرف كانوا، يتفننون بدسّ سمهم بالعسل وإثارة مزيدا من الفتن قد تكون هي الهدف الأسمى لمثل هذه الهجمات، فترى منهم من يتلقّفها فرصةً لسرد مآسي المسيحيين مع داعش وتهجيرهم من أرضهم والتحريض عليهم من مشايخ المسلمين ويستشهد بآيات ظنّها تستبيح دمه من سورة التوبة، بينما يستجلب آخرون التاريخ الدمويّ للمسيحيين من الحروب الصليبية إلى محاكم التفتيش مرورا بالبوسنة والهرسك، يتغافل كلا الطرفين بقصد وقليلا بدونه عن أنّ الحروب الصليبية وغيرها كحرب العراق ما كانت إلّا تلبيةً لأهدافٍ سياسيةٍ بحتة وأطماعٍ حقيرة يحلو لأصحابها أن يروجوا لها كحربٍ صليبية، وأنّ داعش وما يشبهها كلّت ألسنتنا قائلين ما كانت ولن تكون الإسلام يوما!

بعد أكثر من ألفية من التعايش السلمي بين المسلمين والمسيحيين في مصر لمن المخزي أن يظنّ المسلم نفسه في مأزقٍ أو ينتظر المسيحيّ تبريرا عقب كل حدث يطال مسيحيّ، فمن ينفّذ هذا الإجرام بحقّ الأبرياء لديه من الشيطنة ما يكفيه ويغنيه عن فتاوى الفضائيات بجائز ولا يجوز

ما أردت قوله أنّ الإيمان والعقيدة أمر يخصّك كفرد وإن صرّحت بما تعتقد فهذا ليس من الأذى في شيء لمن يخالفك، أمّا كيف تتعامل مع مخالفك هذا فالتدين براء من كلّ من يُلحق الضرر بغيره باسم الدين، المسيحيّة روحها المحبة والإسلام جوهره الرحمة والإنصاف، فكيف لمحبٍّ أو منصِف أن يقبل بمثل هذا؟

المخرج الوحيد لهذا كلّه بأن نتقبّل نحن كأفراد اختلافنا العقديّ ولا ننجرّ فنقع في شراك الفتن ومن رسموها، وأن نتذكّر دائما أنّ الأديان وإن افترقت بنا ففي الإنسانية متّسعٌ لنا جميعا، ومثل قول الشيخ أو ردّ الأب مكاري عليه لا يُفترض أن يحمّل على الطائفية أو الإرهاب، فالفكرة يُردّ عليها بالفكرة لا بقضايا المحاكم ولا التفجيرات.

 

وإنّه وبعد أكثر من ألفية من التعايش السلمي بين المسلمين والمسيحيين في مصر لمن المخزي أن يظنّ المسلم نفسه في مأزقٍ أو ينتظر المسيحيّ تبريرا عقب كل واقعة أو حدث يطال مسيحيّ، فالجهات التي ترسم هذه المخططات وتبدع: الطرفين أعلم منّا بها، ومن ينفّذ مثل هذا الإجرام بحقّ الأبرياء لديه من الشيطنة ما يكفيه ويغنيه عن فتاوى الفضائيات بجائز ولا يجوز، ولن أختم بما هو أفضل من قوله عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم: "لن تؤمنوا حتَّى تراحموا قالوا يا رسول اللهِ كلُّنا رحيم ،ٌ قال: إنَّه ليس برحمةِ أحدكم صاحبَه ولكنَّها رحمةُ العامَّة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.