شعار قسم مدونات

جدلية الصراع على السلطة

مدونات - مصر
النقطة تشكل بداية لرسم بياني، يتزايد لقيمة عظمى، ويتناقص لقيمة صغرى، ثم يعاود الصعود مرة أخرى. إنها الحركة الرياضية التي دائما ما تختصر صيرورة الحياة وحركيتها الوجودية، وقيام الحضارات وانهدامها، لكن الأسوأ عندما تشكل النقطة بداية ونهاية لخط دائري مغلق على ذاته، ويبقى كذلك لا يميزه إلا عدد الدورات التي تصبح عدمية المعنى مع تراكم السنين، هذه الحركة الدائرية تمثل تاريخ صراعنا على السلطة منذ القرن الأول الهجري حينما انتقلت السلطة من الشورى الدستورية القائمة على حرية الاختيار إلى الملك الجبري الوراثي.

هذا الانتقال في نظام السلطة هو نقطة البداية للسير في هذا الخط المغلق، مع ظهور فترات ولمحات مضيئة في تاريخ قيام الدولة وسقوطها لا تخضع لمبادئ يفرضها نظام سياسي، إنما ترجع غالبا لاهتمامات عسكرية وفكرية وثقافية لبعض الخلفاء والسلاطين.
 

الاختزال في تفسير واقع الأمة، هو من يقود شبابها، ورجالها إلى الانتحار الجماعي؛ نتيجة التأثر بأيدولوجيات تكفيرية متبادلة من جميع القوى السياسية، والفكرية والدينية حتى بات كل شخص يعيش على الأرض العربية الإسلامية مشروعا لموت قادم.

الفساد ليس حالة مستجدة في واقعنا السياسي والإداري بل امتد على امتداد التاريخ الإسلامي منذ تشكل الدولة الأموية لتاريخنا هذا؛ أي أن الفساد ثقافة مستمرة ومتجذرة ماتزال مسيطرة على الثقافة العربية، والإسلامية على الرغم من تغير مسميات الحكم ولكن الممارسات السلطوية هي ذاتها، وهنا نريد التوقف قليلاً لنفكك ونحلل، لماذا الدول العربية هي الاكثر فساداً في العالم، وتتدلى في التخلف والاجترار الفكري والحضاري؟

على الرغم من أن المقارنة الزمنية غير عادلة، إلا أنها كافية لتبين أن الاستبداد السياسي عامل انبعاث لانحطاط لهذه الأمة. ولا يجهل أحد أن الحضارة التي بعثها الإسلام في العالم العربي، والأقاليم المجاورة؛ التي وطدها وقوّى وجودها العصر الراشد، بدأت بالذبول والجمود في القرن الخامس الهجري، لكن ظلت بعض الحالات الإبداعية تبرق هنا وهناك حتى منتصف القرن الثامن؛ حيث دخلنا في محاق مظلم لا يزال يعمي أبصارنا.

بيد أن هذا لا يبرر أن الاستبداد السياسي لم يكن عامل الانطلاق نحو الانحطاط؛ فالاستبداد السياسي الذي انطلق في العصر الأموي نراه ماثلا في جميع عوامل لانحطاط التي أصابت الأمة فيما بعد، فغياب المحاسبة السياسية يغيّب الشفافية، ويطلق الفساد في مفاصل الدولة، ويعرّض المال العام للهدر، والسرقة حسب أهواء ونزعات المتسلط المستبد، وذلك بإغداق المال على الحاشية التي تحيط به، والفئة المتملقة التي تهادن وتبرر للحاكم جرائمه، وعلى الجند التي تتوكل في حماية عرشه.

كذلك الاستبداد السياسي يؤدي إلى انسداد الأفق الفكري والمعرفي، وإيقاف عملية التطوير التعليمية، والمعرفية؛ ففي ظل غياب الحريات والحقوق تصبح الفكرة جريمة، وقول الحق الطريق الأسرع نحو الموت والهلاك، مادام في النهاية سيعارض نزوات الحاكم المستبد، وتقصيره في إدارة شؤون الشعب، وتحقيق متطلباته الحياتية.
 

والاستبداد السياسي يعطل الدستور، والقوانين الناظمة للمجتمع، ويكلها لأهواء الحاكم وشطحاته؛ مما يؤخر الاقتصاد، ويعدم التنمية البشرية؛ وهذا يؤدي بدوره إلى إضعاف روح الانتماء والاندماج الوطني ونفاد العزيمة، وركون الأفراد لسلوك الفشل والسخط. وبلغة ابن خلدون تؤدي سياسة الظلم إلى خراب العمران وفساد الدولة وزوال الملك.
 

جميع الثورات التي قامت ضد سلطوية الملك وتجبره، وانفراده في السلطة وما لحقها من فواجع، مازالت تلقي ضلالها على واقعنا، تشبه إلى حد مطابق نزاعات أهلية و طائفية في تاريخنا الحديث.

أما تأثيره على الدين؛ فإنه يفقده حركتيه الجماعية في إقامة القسط، وتعزيز الأخلاق، ويختصره في شعائر العبادة. نرى أن الدولة الإسلامية والدولة القومية العلمانية قد تداولت على السلطة ولكن دائماً النتيجة كانت واحدة ليس هناك اختلاف في الجوهر، ولكن قد يكون ذلك موجود في المظهر؛ أي أن المعسكرين الإسلامي والعلماني جرب نفسه في الحكم، ولا يجوز لأي منهما تكفير الآخر سياسيا وإلصاق به تهمة عدم القدرة على الخروج بالأمة من محنتها، هذا الاختزال في تفسير واقع الأمة، هو من يقود شبابها، ورجالها إلى الانتحار الجماعي؛ نتيجة التأثر بأيدولوجيات تكفيرية متبادلة من جميع القوى السياسية، والفكرية والدينية حتى بات كل شخص يعيش على الأرض العربية الإسلامية مشروعا لموت قادم، تحت مسميات تخفي تحت اقنعتها الوصول إلى السلطة والاستئثار بها.
 

كلتا التجربتين أثبتت فشلها تماما؛ لأنها لم تعِ مدى خطورة الوثنية السياسية وقدرتها على إفشال الدول؛ فعززت سلطة الفرد، وغيبت المبادئ الدستورية، وقيدت تطبيق القانون. فالتجربة الإسلامية ليست أفضل حالا مما نعيشه اليوم، ولكن الفرق يكمن ما بين المعاناة الحية، وتلك المعاناة التي تسطر كتاريخ، ولن أطيل كثيراً في السرديات التاريخية، بل سأذكر بعض النقاط التي تعري التجربة الإسلامية في السلطة؛ فالذي عانته بغداد إبان الاحتلال المغولي، لا يختلف كثيرا مما تعانيه اليوم وكذلك دمشق وحلب وحمص، وما عاناه مسلمو الاندلس تحت همجية محاكم التفتيش لا تقل ألما وفظاعة مما يعانيه السنة اليوم في العراق وسوريا ومصر واليمن من قتل على الهوية الدينية وتغير ديموغرافي، وحروب إبادة.
 

جميع الثورات التي قامت ضد سلطوية الملك وتجبره، وانفراده في السلطة وما لحقها من فواجع، مازالت تلقي ضلالها على واقعنا، تشبه إلى حد مطابق نزاعات أهلية و طائفية في تاريخنا الحديث، وآخر تجربة في الخلافة الإسلامية أورثتنا الجهل والتخلف واعدمت الحركة الثقافية والفكرية، بل أفقدتها ديناميتها تماما فنسبة المتعلمين (أي الذي يجيد القراءة والكتابة) في زمن السلطنة العثمانية لا يتجاوز 2 بالمئة؛ لذلك لم تستطيع الأمة الإسلامية أن تجاري الحضارة الغربية التي بدأت بالانطلاق والنهوض نحو التنوير والثورة الصناعية والعلمية.
 

أما الفساد الاقتصادي والإداري أسقط الدولة في عجز اقتصادي كبير، لم تستطيع الضرائب المحصلة من الرعية سد العجز؛ مما أجبرها أن تستدين من دول الغرب، وتأخذ القروض التي كانت السبب وراء سقوط الخلافة العثمانية، وتسليم أراضيها الإسلامية للمستعمرين الأجانب. ناضلت الشعوب وجاهدت لتنال استقلالها، وحاولت بناء ديمقراطيات وبرلمانات تعيد الحياة الدستورية إلى الممارسة وتقرر الشعوب من هو الأمثل لإدارة مصالحها وشؤون حياتها.

يجب أن نفكر ونجهد فكرنا في إيجاد نمط ديمقراطي يحفظ حرية الإنسان وكرامته، ويفتح الباب أمام حرية الرأي، والتعبير لمراقبة أعمال الحكومات المتعاقبة، ومحاسبتها على التقصير.

ولكن ما لبثت هذه الدول التي فرض عليها الاستعمار حدود و جغرافيات مستحدثة أن عادت إلى الاستبداد مع القوميون والعلمانيون الذين كرسوا الاستبداد والظلم السياسي بصورة أكثر إحكاما عبر مفهوم الدولة الشمولية، ففرضت أجهزة رقابة صارمة على مواطنيها تحت ما يعرف بالمخابرات والأمن العام حتى هووا بنا إلى المراتب الاخيرة في كل تصنيف يعبر عن تقدم الحضارة البشرية ودورها في تطوير وتفعيل حياة الإنسان، حتى بتنا لسنا أموتا ولسنا أحياء، وما نحتفظ به من حق الحياة فقط لمعايشة الألم.
 

لا مناص من الاستفاقة والبحث عن مسار جديد يخرجنا من التخلف، وظلاميته الدامسة، والابتعاد عن عقلية الاعتذار أو العودة لتكرار تجارب سلطوية سابقة؛ أدت إلى انحطاطنا وفشلنا. لابد من إنهاء الصراع على السلطة فكريا وتعيين نموذج ديمقراطي يوافق حالتنا الإسلامية للانبعاث من جديد، وإيجاد نقطة انعطاف للمرور من الانحطاط إلى الصعود، وتحريك التنمية الاقتصادية وتحريك عجلة الثقافة "لن ينتصر المسلمون دينيا إذا لم ينتصروا دنيويا، فلابد أن يكتشفوا الكون، ويسخّروا المادة لتكون في خدمتهم وخدمة دعوتهم الربانية ورسالتهم الحضارية" القرضاوي، ولكن لا يمكن قصقصت الإسلام والتخلي عن مبادئه في تنظيم حياة الجماعة والفرد لقولبته بالديمقراطية الغربية، وليبراليتها.
 

يجب أن نفكر ونجهد فكرنا في إيجاد نمط ديمقراطي يحفظ حرية الإنسان وكرامته، ويفتح الباب أمام حرية الرأي، والتعبير لمراقبة أعمال الحكومات المتعاقبة، ومحاسبتها على التقصير وعدم قدرتها على الإنجاز، ويفعّل مؤسسات الدولة، ومنظمات المجتمع المدني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.