شعار قسم مدونات

التنمية البشرية وبيع الفجل

مدونات - محاضرة
لكم مني يا سادة يا مدربين كل التحية، أعتذر منكم عن هذا العنوان فمهما اختلفنا سيجمعنا الضمير الحي في لحظة عزلة حينما نراجع الأمانة العلمية والبصمة الواضحة والأثر الإيجابي على مجتمعات تئِن من وجع التبعية لتكنولوجيا الغرب المتقدم، لا تتهمونني بالتعميم يا سادة فلست كذلك، فلدي من المدربين الأصدقاء -وفي التنمية البشرية حصراً- من يشد على يدي بكل كلمة أنقد فيها واقع التدريب المؤسف داعين إبطال السحر فيه.

اعذروني يا سادة، فلم أرى طبيب ناجح تخرج من تحت أيديكم ولا مهندس ولا محاضر جامعي ولا باحث علمي، ولم أرى عالماً في التكنولوجيا مر من تحت بركات أدعيتكم في دوراتكم التدريبية، اعذروني يا سادة فلم أرى أحداً منكم تجرأ على التنمية (العلمية الميدانية في العلوم التطبيقية) واكتفى بالتنمية البشرية حتى لو كانت شهادته الأكاديمية في مجال تطبيقي، اعذروني يا سادة فلم أسمع عن براءة اختراع واحدة حققها ملتحق بدوراتكم.

حينما قرأت سيرة ذاتية فريدة لطبيب ترك الطب والتحق بكم ليصبح مدرباً معتمداً فصاغ سيرته الذاتية حسبته فيها جالساً على عرش سليمان يحمل منسأته.

اعذروني يا سادة فترجمة الكتب الأجنبية أو اقتباس ما قيل فيها مع نفحة شرقية وآيات قرآنية للتسويق والتشويق لا تجعل منها مادة خام لبرامج تدريبية ذات أثر على المجتمع ما لم يكن في أثرها إنجاز (علمي) واضح، بحث رائد، براءة اختراع، نظرة تجديد، نظرية في مجال ما، على الأقل وفق طريقة التسويق لديكم على أنها تحقق المعجزة، هكذا تسوقون لدوراتكم وما علينا إلا التصديق بحسن النية، والنتائج تخبرنا يقيناً بالأثر.

حينما ألزمت شركة تويوتا نفسها ببرامج Six Sigma قامت بإضافة العديد من النظريات العالمية عليها وأثرتها كلها ولم تكتفي فقط بالاقتباس.

أعذروني يا سادة حينما أقرأ سيرة ذاتية لمدرب واحد لو قُسّمت إنجازاته على علماء وكالة ناسا لأغنتهم وأثرتهم أجمعين وزاد منها قليلاً لعمال الصيانة وسائقي السيارات لدى الوكالة. أعذروني.. حينما انفجرت ضحكاً وغضباً وبكاءً ونحيباً حينما قرات سيرة ذاتية عرّف المدرب بنفسه في بدايتها قائلاً (مبتكر علوم الكذا)، يا سيدي اجعلهم علماً واحداً للتعريف بنفسك والباقي صدقة خفية لوجه الله.

اعذروني يا سادة حينما أقرأ سيرة ذاتية فيها عضوية لمجموعة هيئات ومنظمات وشركات ومؤسسات لو واظب المدرب على مهامه فيها ليوم واحد لاحتاج خمس وعشرين ساعة في ذلك اليوم ليحضرها جميعاً. اعذروني يا سادة، حينما قرأت سيرة ذاتية فريدة لطبيب ترك الطب والتحق بكم ليصبح مدرباً معتمداً فصاغ سيرته الذاتية حسبته فيها جالساً على عرش سليمان يحمل منسأته.

اسمحوا لي أن أقف بين أيديكم مطأطئ الرأس لأسترجع وإياكم قصة أحد المتقدمين لشغل وظيفة في شركة أمريكية عملاقة في عقد التسعينيات، حينما جلب للمقابلة رزمة شهاداته محمولة على دابة عنجهيته وغطرسة علمه، منتظراً الانبهار وتقديم العروض له كما لا عين رأت ولا أذن سمعت، تصفح المدير الذي قابله السيرة الذاتية وملحقاتها من أطنان الكلمات الرنانة، وضعها جانياً وأتى بورقة فارغة، كتب عليها رقم من ثلاث خانات مرفوعاً على أُس من ثلاث خانات وقال للمتقدم، احسب الناتج لي يا سيدي، وتركه يحسب الناتج مراقباً له هل سيحاول حسابها بالطرق التقليدية، عجز المتقدم عن حسابها متعرق الوجه ينظر إلى المدير وتدور عيناه كالذي يغشى عليه من الموت، أجابه المدير، سيدي أعتذر عن توظيفك فشهاداتك المرفقة أوحت لي أنك قادر على ابتكار طريقة جديدة في الرياضيات تحسب الناتج.

دعونا نتجنب التسويق الفاشل بالعبارات الرنانة والفلكية والعابرة للقارات فقط لجمع متدربين لبرنامج تدريبي واحد، أو التسويق لمدرب جديد على الساحة بالكاد يجيد اللغة العربية، فهذه ليست رسالة التدريب السامية.

أعذروني يا سادة، أنتم تدربون طريقة صياغة السير الذاتية وتجهلون أن السيرة الذاتية كما (المعجون) ينبغي أن يشكّلها المتقدم وفق احتياجات الجهة المتقدَّم لها، وذكر كل ما يمتلك الشخص من خبرات هي من عيوب السيرة الذاتية.

هب أن هناك خريجاً جامعياً في الرياضيات، لكن الله أعطاه ملكة الرسم والشعر، هل سيتقدم لوظيفته في قسم الرياضيات تالياً قصائده، مرفقاً لوحاته. هب أن رساماً بصوت جميل تقدم للعمل في مرسم فقام بغناء سيرته الذاتية عند المقابلة ليظهر لهم ملكاته المتعددة.

يا سادة لست ضد التنمية البشرية فلها منجزات وأثر يعجز العقل عن تصديقه لما تغيره في المجتمعات وما توضحه عن الذات البشرية، ولكم في الاتحاد السوفييتي أفضل مثال، حينما تفرغ الكثير من علمائه منذ قرن من للتنمية البشرية وعلم النفس والتخاطر ولغة الإشارة والحاسة السادسة والباراسيكولوجيا، لكنهم فعلوا لذلك لاكتشاف الذات وتطويرها نحو العلوم التطبيقية فكان حلمهم السيطرة على العالم، من منا يصدق أنهم ابتكروا طريقة قياس إشارات التخاطر والأشعة الدماغية بأنواعها وفق مدى يصل لستمائة كيلومتر؟

كانت لديهم وسائل تحقيق مع المجرمين لا تمتلكها أي دولة في العالم، حينما يضعون المتهم في جو التحقيق القائم على فهم النفس والسلوك يحاكي ما يخفيه فيعترف أحياناً حتى دون أن يُسأل. الآن هم يتربعون مع بعض الدول على عرش التكنولوجيا.

يا سادة لا ننكر جهدكم وكم بذلتم من غالٍ ونفيس لتقفوا أمام جمهور المتدربين وتُمنحوا صفة المدرب المعتمد، والاستشاري الدولي، والكوتش العالمي، لكن أستحلفكم بالله أن تضعوا أيديكم بأيدي علماء ومدربي العلوم التطبيقية لنهضة المجتمع، فأفضلنا حالاً يجذف بيديه في مركب التطور لاحقاً ما يصبوا إليه العالم من التطور وراحة الإنسان في الأرض، وبدون هذا التكاتف سنبقى نلعب لعبة القفز على الحبل، نتعرّق ونلهث بلا تقدم خطوة ونقول عن أنفسنا أنا عدّاؤون.

قبل أن تطلق على نفسك صفة "الكوتش العالمي" تأكد أن المنظمة العالمية التي منحتك الشهادة العالمية ليس عالمية بالضرورة، وإنما قد تكون مملكة وهمية قوامها مكتب أو حتى مجرد كرسي وراء تلفاز وشاشة حاسوب يحكمها مصاص دماء وجيوب.

كان بعض أجدادنا من العلماء لكل منهم ملكاته المجتمعة، شاعر وفنان وفلكي ورياضي وطبيب، لكن ما وصل منها إلا العلوم التطبيقية كأثر نافع، ولا ننكر إبداعهم الأدبي، لكنه لا يطور أمة وإنما يهذب نفساً ويجملها لتنجز ما ينفع.

يا سادة دعونا نتجنب التسويق الفاشل بالعبارات الرنانة والفلكية والعابرة للقارات فقط لجمع متدربين لبرنامج تدريبي واحد، أو التسويق لمدرب جديد على الساحة بالكاد يجيد اللغة العربية، فهذه ليست رسالة التدريب السامية.

يا سادة دعونا لا نقفز للنتائج ونلتزم بالقاعدة العلمية "المقدمات الصحيحة توصل إلى نتائج صحيحة". دعونا نضرب عرض الحائط تقييمات البرامج التي لا تعطي إلا نتيجة إيجابية وهمية، يا سادة هناك مقاييس جودة عالمية ومخططات بيانية ومعادلات رياضية تحسب حتى الأثر النفسي والسلوكي، هل نخاف من تطبيقها بعد عام على البرنامج التدريبي لتظهر النتائج المرعبة والاهداف الخُلّبية التي تم التسويق لها؟

يا سيدي قبل أن تطلق على نفسك صفة "الكوتش العالمي" تأكد أن المنظمة العالمية التي منحتك الشهادة العالمية ليس عالمية بالضرورة، وإنما قد تكون مملكة وهمية قوامها مكتب أو حتى مجرد كرسي وراء تلفاز وشاشة حاسوب يحكمها مصاص دماء وجيوب، وهذا بشهادة أحد القائمين عليها حينما سأله أحد الضيوف المدربين في دولة أجنبية، أين هي منظمتك؟ فتبسم ضاحكاً مشيراً إلى زوجته، هذه هي منظمتي، فهي من البيت تقوم بكل المراسلات ومنح الشهادات وأنا أستلم التحويلات المالية بعد أن حصلنا على ترخيص من السهولة بمكان وفق القانون المحلي وكل زبائننا من عندكم.

يا سيدي كلنا يستطيع أن يفتتح مقهى لشرب الشاي التركي ونسميه المقهى الفنلندي لكن الشاي من الصين والفنجان من ألمانيا والمناديل من فرنسا والزبائن محليون، فهل هذا يجعل منه مقهى عالمي؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.