شعار قسم مدونات

التكفير الديني

blogs - قرآن الفاتحة
أحكام التكفير والردة باتت تجد لها طريقا سلسا وسهلا لولوج أبواب القاموس الديني، الرائج الآن في المغرب…
أولا: بوصفها كلاما مسموعا ومقروءا قادرا على مخاطبة الناس واستمالتهم، وأيا يكن معلنه ما علينا إلا القيام بجولة في منتديات التواصل الاجتماعي، مرورا بآلاف التعاليق على حاشية المواقع الإلكترونية للتحقق من هذا.

ثانيا: لأثرها القوي في احتواء الشعور الديني وتوجيه سلوك فئات معينة وتنميط ردود أفعال في اتجاه واحد إزاء المخالفين، على الرغم من اصطلاحها العويص وصعوبة استيعابه أحيانا من طرف مُتلقيه. وقد حُبكت في تخريج تقليدي مُنتزع من المتون يُساير بدقة سُلّما فقهيا قيميا مُعينا لا تشوبه شائبة.

ففي معمعة القرون الوسطى انبرى كثير من حُذّاق المذاهب الفقهية لصقل وبلورة صناعة جديدة ستثمر أُكلها فيما بعد كوسيلة فتّاكة للحسم في السجالات والتناحرات العقدية، عرفت خلال مراحل تقعيدها والتعاطي لضوابطها توالد لغة اصطلاحية رصينة عالية الفنّية والحذق في قولبة الأحكام ونحت ألفاظ التكفير، تُشهر كسلاح طارئ عندما يستوجب ذلك ضرورة إنهاء النزاع. 

صناعة تكفيرية بكل مُقوّماتها الإغرائية الجذّابة سَتَدخل عَلَنَا بعدما شَبِعَتْ تَخَنْدَقَا فِي السِّرِّ، مُنْعطفا إعلاميا ودعائيا فريدا من نوعه لم يعتد عليه المغاربة من قبل.

فنجد لديهم في البداية أن للكفر تلاوينا وأقساما، وله مؤشر قيمي يقيس شدّته انتقالا من الأصغر إلى الأكبر، وكل نوع مُرتّب ومُبوّب تندرج تحته كثير من الصُور حسب اجتهاد المُعلّل وفطانته، ثم نجد مثلا أن هناك كفر الجحود والتكذيب، كفر الاستحلال، وكفر الإعراض والاستكبار، كفر الشك والريبة، كفر النفاق، ثم يليه الكفر الأصغر بحيثياته وتفاصيله الصغيرة التي لا يُحصّل دقائقها إلا من خبر دروب هذا الباب وتآويليه وعلم تقنية تنزيلها. وهناك من استدلَّ على أن من الكفر ما يُسَمَّى كفرًا لفظيًّا ومحله اللسان، ثم بعده ما يسمى كفرًا اعتقاديًا ويليه ما هو كفرٌ فعليٌّ.. إلخ.

ثم يظهر مع مرور الزمن تقسيم آخر باصطلاحات رهيفة يُفرق بين الكافر الأصلي يهودي نصراني مجوسي وهو من ولد ونشأ في الكفر، وهناك الكافر الطارئ غير الأصلي، وهو الذي ثبت له الإسلام بطريق معتبر ثم طرأ عليه ما يستدعي إطلاق الكفر عليه، وينتج من الفرق بينهما أن يحصل لدينا تفريع؛ تكفير عيني وهو أن نعتقد كل من انطبقت عليه صفات الكفر الأصلي يجب أن نطلق عليه لفظ كافر وكفر نوعي. يكون خاصة في الكفر الطارئ، أما إذا ثبت أن صدر منه دليل كفر بطريق يفيد اليقين في الثبوت والدلالة جاز إدخاله في التكفير العيني، وبالتقسيم والنبش ذاته تُستخرج أصناف أخرى للردة وما شابهها، وبنفس المنهجية في التعليل لإظهارها وتشذيبها وتمريرها كيدا في فتاوى توظيفية للتقرب بها من الوُلاة.. إلخ. 

فإذا هذا الفن المذهبي القديم لم يكن ليحتاج لمُبتكرين جُدد أكثر مما كان في حاجة لمن ينفض عنه الغبار وينتزعه غصبا دون اعتبار لتحولات الواقع وتغير الظروف التاريخية من سياق مجريات تلك القرون الماضية، ليُبعث من جديد ويستوي صناعة تكفيرية في حُلّة إعلامية أنيقة مُحاطة بهالة من التواصل الإيماني، وهذا ما حصل لدينا منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى تفجيرات 16 ماي 2003، وإلى اليوم.

أصحاب قاموس الحداثة ولواحقها من المفاهيم المكّوكية المستقاة من الحضارة الغربية في شبه سهْو تام، كما حال اليسار الآن، وهو في لحظة شتات ﻋن ﺟدّﯾﺔ الصناعة التكفيرية اﻟوافدة.

صناعة تكفيرية بكل مُقوّماتها الإغرائية الجذّابة سَتَدخل عَلَنَا بعدما شَبِعَتْ تَخَنْدَقَا فِي السِّرِّ، مُنْعطفا إعلاميا ودعائيا فريدا من نوعه لم يعتد عليه المغاربة من قبل، فستتضخم شيئا فشيئا وتنشط تباعا على المستوى الدلالي والوُجداني والواقعي بكل ما تبُثّه من علامات ورموز وشخوص ومفردات كانت فيما قبل غريبة عن أذن عامة الناس مدفوعة بدينامية لاهثة للإطاحة بالقاموس المنافس. قاموس العلماني طبعا المفترض فيه أنه الخصم اللدود.

وهكذا ستبدأ تبرز وتَترَسُّخ كرطانة ونبرة تحريضية نزقة في نغمة نشاز مع ما يُطيقه الظرف السياسي ويسمح به، إلى أن ظهر مؤخرا ويا للمفاجأة خطاب توأم لها مدرج في لائحة فتاوى، صدر من جهة رسمية كانت تُحسب على المنطقة الساكنة والمحايدة.

في اﻟﻣﻘﺎﺑل وفي الجبهة الأخرى، ﻛﺎن أصحاب قاموس الحداثة ولواحقها من المفاهيم المكّوكية المستقاة من الحضارة الغربية في شبه سهْو تام، كما حال اليسار الآن، وهو في لحظة شتات ﻋن ﺟدّﯾﺔ هذه الصناعة التكفيرية اﻟوافدة وتأثيراتها الصادمة وقوتها اﻟنامية اﻟﺗﻲ تستجمع طاقتها بهدوء وتمهل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.