كان للإعلام العربي والغربي أن يحذو حذواً معيناً، في تناول أحداث الثورة السورية، وما لحقها من استحقاق الحرب والدمار والتغير الديموغرافي والهجرة، فكانت الأولوية في تسليط الضوء على المناطق التي بدأت منها شرارة الحراك الثوري والتظاهرات السلمية المطالبة بالحرية آنذاك، ومن ثمّ المدن التي شهدت مجازر وحالات قتل، كان قد بدأها النظام السوري كرد فعل على تلك الثورة بحق الشعب الأعزل.
فكان للمحافظات السورية أجمع، أن تأخذ جزءاً ليس قليلاً من حقها في التغطية الإعلامية، ويصير القاصي والداني، ممن يسعى لمتابعة ما يجري في بلدان الربيع العربي خاصةً، مُلمّاً بثقافة المحافظات السورية الثائرة على الأسد (أسماؤها، ناشطوها، معالمها)، ولا يسمع -ذلك المتابع- بمحافظة دير الزور، وإن حدث ذلك، سيقتصر على رؤوس الأقلام، من أي حدث كان قد مر بتلك المحافظة، لتغدو دير الزور بذلك، المحافظة الأكثر ازدراء ومتروكية عن غيرها من المناطق السورية الثائرة.
دير الزور، أو كما تُدعى باللهجة المحليّة السورية: "اٙلْدٙيْرْ"، دلت المكتشفات الأثرية في محافظة دير الزور، بأنها مأهولة بالسكان منذ الألف التاسع قبل الميلاد. هي محافظة سورية في شرق البلاد، تقع على نهر الفرات، ومروره بها، يقسمها جغرافياً إلى "شامية" أي المناطق التي تقع يمين الفرات، و"جزيرة" المناطق التي تقع يسار الفرات. عاصمتها مدينة دير الزور، وهي أكبر مدنها، ويتبع لها بعض المدن الأخرى.
في محاولة الكشف عن السبب من وراء تلك الحالة التي استحوذت على الدير، من نسيانها واللامبالاة بها أجد بأن طباعاً كالتي عوّدنا عليها حافظ الأسد، بأنها أحد المناطق النامية؛ هي أهم أسباب تلك الحالة |
يوجد فيها مطار إقليمي، هو مطار دير الزور، الذي صار إبان الثورة السورية مطاراً عسكرياً، كان يسيّر رحلات مع المطارات السورية والخارجية، وفيها أيضاً محطة قطار للركاب والشحن تربط المحافظة بكافة مناطق سوريا. وفي مدينة دير الزور كذلك، مقر جامعة الفرات وجامعة الجزيرة الخاصة، ومعاهد فنية ومهنية متخصصة، كما وكانت تصدر في المحافظة جريدة محلية يومية باسم الفرات. ولا يسعني التعريف بدير الزور ولا أذكر أشهر معلم أثري تميّزت به الدير. الجسر المعلّق، الذي بناه الفرنسيون عام ١٩٢٥، وهدمه الأسد عام ٢٠١٣.
ففي محاولة الكشف عن السبب من وراء تلك الحالة التي استحوذت على الدير، من نسيانها واللامبالاة بها من قبل الأخوة في الوطن، من غير أبنائها، أجد بأن طباعاً كالتي عوّدنا عليها حافظ الأسد، ومن بعده بشار، كالتصور الذي وُجد لدى معظم السوريين، والذي يجعل من الدير، بلد الصحراء والغنم والخيم، والمنضوي تحت مسمّى: المناطق النامية؛ أحد أهم أسباب تلك الحالة. لا سيما وأن أبناء الدير أنفسهم، كانوا قد قصّروا بحق محافظتهم، على عكس أبناء المحافظات الأخرى، الذين أوصلوا أسماء مدنهم وضحاياها، لأبعد منطقة في العالم، وكانوا على قدر المسؤولية بذلك، في حين أن أبناء الدير كانوا قد افتقدوا لتلك المهارات التي تفيدهم، في سبيل التسويق لمصاب مدينتهم، من خلال اكتساب الخبرة اللازمة في مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام المرئي، ونشر تدوينات من شأنها أن تكون متاحة على متصفح غوغل الشهير، فيراها كل من يبحث عن كلمة دير الزور، ويصبح بذلك عارفاً بما يجري على ضفتي الفرات؛ بالإضافة إلى ضيق طبقة النخبويين وذوو الكفاءة لدى الديريين بالنسبة لما قد نجده في المحافظات السورية الكبرى، كدمشق وحلب، إذ أن لذلك دور مهم أيضاً.
مسكينةٌ بلدي التي تاجر بها جميعُ صنّاع القرار، مساكين أبناؤها.. الشهداء، ومن بقي منهم على قيد الحياةْ. دير الزور… تقدم، وما تزال، كل ما تملك دفعةً وراء دفعة، ولا يحول ذلك من عدم توجه الاتهامات لأبنائها بالتخاذل، ومن ثم بالعمالة |
دير الزور اليوم، وبعد مرور ستة أعوام، ثورة ومظاهرات في ساحة الحرية والمِدِلْجِيْ، مروراً بنزول مقاتلي الجيش الحر لشوارعها، وبدء قصف الأسد لأحيائها بشتى أنواع القذائف في منتصف عام ٢٠١٢، وصيرورة ملامحها إلى ماهي عليه الآن: أثراً بعد عين؛ وليس انتهاءاً باحتلال داعش لها، ومصادرة رصيدها الثوري، وجز رؤوس أبنائها، وتعليقها على أعمدة الساحات، بتهم الرِّدّٙة والكفر والعمالة التي لا تنتهي؛ ما تزال تقاوم وتئن بصمت، ما دام الأسد يقصفها بالطيران الحربي وقذائف الهاون حتى اليوم، ويجوِّع أهلها في حيي الجورة والقصور، وما فتئ أمنيّو داعش يستبيحون دماء أبنائها، ضمن إصدارات مرئية هوليودية.
مسكينةٌ بلدي التي تاجر بها جميعُ صنّاع القرار، مساكين أبناؤها.. الشهداء، ومن بقي منهم على قيد الحياةْ. دير الزور… تقدم، وما تزال، كل ما تملك دفعةً وراء دفعة، ولا يحول ذلك من عدم توجه الاتهامات لأبنائها بالتخاذل، ومن ثم بالعمالة، وليس آخراً بالردة! دير الزور.. التي أشعلت الثورة وحملت الأعباء التي تليق بنخوة الديري حينما يحتاجه الأخ، دير الزور.. تلك المدينة في الشرق، فيها الثورة حقيقةٌ وليس صدفة، دير الزور.. التي مرّت منها كل الغزوات، من استغلال مروءة أهلها، إلى نهبها، إلى تغيير اسمها، تواجه البحرَ بشراع وحيد، إذ لم يحدث أن خذل أحدٌ مدينته كما خذلها ساستُها وممثلوها، وكلُّ هذا حدث، فقط في الستة أعوام الماضية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.