إن بر الوالدين واجب، فلا حاجة إذن لتعريف الناس بهذا الحكم البدهي، ولكنّ الذي يحتاجه المستمع إنما هو إثارة حماسه، وإيقاظ همّته لينطلق في برّ والديه. |
ولا أكون مبالغا إذا قلت: إن ظاهرة التثاؤب المتكرر، والتململ الظاهر في وجوه المصلين، وشرود الذهن، وعدم إلمام الناس بما قاله الخطيب، أو عدم قدرتهم على تمييز الفكرة الرئيسة للخطبة، كل ذلك مردّه وسببه الأول: الخطيب نفسه، والمستوى المتدنّي في اختيار الموضوع، وصحة اللغة والبلاغة، والاستشهاد والتحضير، ونبرة الصوت، والمحتوى المشاعري والعقلي، وتسلسل المحاور، واتّساق الأفكار..
وإذا بدأنا بمن هم فوق خطيب المسجد، أعني إدارات الشؤون الإسلامية ووزارات الأوقاف، أو إدارات المراكز الإسلامية في بلاد غير المسلمين، وهذه الجهات هي التي يحاول الخطباء إلقاء اللوم عليها، لضعف الرواتب والحوافز، أو لأنها تفرض موضوعات الخطب، أو للمحاسبة الدقيقة المزعجة على كل زلة لسان، أو استطراد بسيط يصدر من الخطيب، فيغدو قليلَ المبادرة، ويؤثر سلامة نفسه على سلامة الخطبة، ويفضّل راحة باله على راحة ضميره، وما أعجبَ أن تضيّع الحكومات والدول فرصة استثمار المساجد في نهضة أبنائها، بعدم الالتفات إلى احتياجات أئمة المساجد وخطباء المنابر!
وإذا تحدّثنا عن المؤهّلات المطلوبة للخطيب الناجح، فإنه لا ينبغي أن يُفهم ضرورة وجودها كلّها في شخص واحد، بل علينا أن نقرّ أنّ الخطيب الذي يجمع هذه المؤهّلات النفسية والعلمية والاجتماعية صار أندر من الكبريت الأحمر، فأين هو العالِم المدقق، والواعظ الشفيق، والحماسيّ المثير للهمم، والبصير بمشكلات مجتمعه، الفصيح البليغ الذي لا يطلق من الكلمات إلا ما يقع في القلوب، صاحب التركيز الذي يرتّب أفكاره في تسلسل منطقي، فينفذ بها إلى عقل سامعيه في بساطة ويُسر.
ليس المطلوب أن تجتمع كل هذه الأمور في رجل واحد، إنما المطلوب أن نقترب من هذا الكمال النسبي جهد الاستطاعة، فنلفت أنظار الخطباء إليه ليسعى كلٌّ في تحصيل ما يرفع من مستوى أدائه على منبره، ولِتقام الدورات العلمية للخطباء في النحو والصرف وعلوم البلاغة، والدورات التدريبية في فنون الإلقاء ومخاطبة الجماهير، وحبّذا ورشات العمل والملتقيات الثقافية التي تبصّره في علم النفس والاجتماع، وتعرّفه بمشكلات مجتمعه الذي يخاطبه.
من أكثر ما نعاني منه، تلك الخطب النظرية، التي ملِئت بمعلومات تثقل العقل، وخَلت من الجانب العملي التطبيقي التي يحتاج إليه المتلقّي. |
أمّـا الإعداد والتحضير للخطبة، فهو الأهم، لأنّـه يجبُـرُ عيبَ الخطيب إذا ضعف لديه الجانب العلمي، أو شقّ عليه توليد لغة صحيحة ارتجالا، أو لم يكن مُـلمًّا بما يستعمله من شواهد وأشعار وقصص طريفة من أخبار السلف الصالح، أو دعاء مؤثر فيه مناجاة تُشعِر العبد بالقرب من ربه تبارك وتعالى، هذا التحضير الجادّ للخطبة هو التعليم المستمرّ للخطيب، وهو ما يجعله متجدّدا لا يملّه السامعون، كما يحميه من الحرج الذي قد يُسقِطُهُ من أعين الناس.
وليس التحضير قاصرا على (ما يقوله) الخطيب، بل لا بد من العناية الكبيرة في (كيف يقوله)، فكم من خطيب حشد معلومات في رأسه ثم خانه التعبير بين يدي الناس، وكم من عالم بتفاصيل المسائل، عجز عن إيصال فكرته بوضوح وبساطة.
ومن أكثر ما نعاني منه، تلك الخطب النظرية، التي ملِئت بمعلومات تثقل العقل، وخَلت من الجانب العملي التطبيقي التي يحتاج إليه المتلقّي، فلا نجد مسلما يجهل –على سبيل المثال- أن بر الوالدين واجب، فلا حاجة إذن لتعريف الناس بهذا الحكم البدهي، ولكنّ الذي يحتاجه المستمع إنما هو إثارة حماسه، وإيقاظ همّته لينطلق في برّ والديه، ثم الخطوات والأعمال التي بإمكانه أن يقوم بها ليصل إلى هذا الشرف الكبير ويكون ابنا مرضيًّا عنه حقا.
يجبُ أن يعيَ الخطيب أن خطبة الجمعة ليست محلًّا لاستعراض (المعلومات)، بل الغاية الحقيقية تحريك النفوس والهمم لتطبيق المعلومات، فالخطبة هي الجانب المشاعري الحركي للعلم، وليست هي الجانب النظري.
بإمكاننا أن نجعل خطبة الجمعة انطلاقة لنهضة الأمة كلها على جميع المستويات، العلمية والثقافية، والنفسية والاجتماعية، والسياسية والقانونية، ولا يكون ذلك إلا بإرادة المجتمع ووعيه، إرادةً حقيقة ووعيًا شاملا، وقبل ذلك: بإرادة القيادات والإدارات العليا والحكومات ووعيها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.