شعار قسم مدونات

مشعل.. قائدا لحماس وجنديا فيها

blogs خالد مشعل

سيسجل التاريخ الفلسطيني بعد عقود أن خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس، قد تنحى عن قيادة الحركة، طواعية وعن طيب خاطر، وهو في ذروة عطائه، وقوة شخصيته، وامتلاكه شبكة علاقات محلية وإقليمية ودولية عز نظيرها، فضلا عن وجود رأي عام داخلي في حماس، وخارجي لدى أصدقائها، يطالبونه بالبقاء في موقعه هذا، الذي يغادره بعد أيام قليلة..

 

صفات القائد

تشرفت كثيرا بمعرفة خالد مشعل عن قرب منذ ما يزيد عن عشر سنوات، والتقيت به عشرات المرات، سواء خلال إقامتي في دمشق أثناء دراستي في جامعتها، أو أثناء زياراتي العديدة إلى قطر، للمشاركة في فعاليات أكاديمية وثقافية.

 

رأيت في أبي الوليد، وما زلت أرى فيه، قائدا فذاً، ذي كاريزماتية عالية، وصفات القائد طويل النظر وبعيد الأفق، اتفقت واختلفت معه، كما الكثيرين، في بعض المحطات السياسية المفصلية، لكني أشهد أنه رجل واسع الصدر، تحمل نقدي القاسي له في كثير من اللقاءات، التي لم أجامله فيها، وهو بالمناسبة رجل لا يحب المجاملة والمداهنة، وهي صفة ملازمة لأي قائد حقيقي، يحب أن يسمع من بطانته أخطاءه وهفواته، التي لا تعيبه، أو تنتقص من قدره، وهكذا القائد الناجح يجب أن يكون.

 

لمست لدى خالد مشعل رغبة جادة، وقوية، بأخذ استراحة محارب من قيادة حماس، سواء لترسيخ اللائحة الداخلية التي لا تعطيه الحق بدخول مجال التنافس مجددا، بعد مرور قرابة العشرين عاما على قيادته لحماس، أو لضخ دماء جديدة في صفوف قيادة حماس

اليوم، وبعد أن أعلن مشعل تنحيه عن قيادة حماس، وانتخاب إسماعيل هنية خلفا له، ربما يسجل مشعل لنفسه ولحماس أول سبق تاريخي على مستوى الحركات السياسية الفلسطينية، في تسليم مفاتيح قيادة الحركة لخليفته المنتخب، وهو ما زال يتمتع بصحة عالية، وذاكرة قوية، وكفاءة عالية، رغم وجود دعوات داخلية وخارجية لبقائه على رأس قيادة الحركة، في ظل المنعطف الخطير الذي تمر به حماس خصوصا، والقضية الفلسطينية عموما.

 

ربما أكشف سراً في هذه السطور أنني حين كنت أجري حوارات صحفية مع أبي الوليد، أو ألتقي به بين حين وآخر، كانت مسألة تنحيه، وعدم ترشحه لدورة انتخابية، تطرح بصورة دورية بعيدا عن التسجيل والنشر.

 

الحقيقة أنني لمست لديه رغبة جادة، وقوية، بأخذ استراحة محارب من قيادة حماس، سواء لترسيخ اللائحة الداخلية التي لا تعطيه الحق بدخول مجال التنافس مجددا، بعد مرور قرابة العشرين عاما على قيادته لحماس، أو لضخ دماء جديدة في صفوف قيادة حماس، التي يصفها مشعل بأنها حركة ولود، ولديها قدرة على إنجاب قادة وكوادر أكفاء، وكان يكرر دائما أنه يريد أن يسمع كلمة الرئيس "السابق" للمكتب السياسي لحماس.

 

مستقبل حماس

هذا التقديم الخاص بشخصية مشعل، هو المدخل الحقيقي واللازم لمحاولة استشراف مستقبل حماس في اليوم التالي لغياب مشعل عن قيادة الحركة، في ظل تحديات داخلية وخارجية، تتطلب حكمة كبيرة ومشاركة جماعية في اتخاذ القرار، وقدرة غير عادية على تجاوز التهديدات التي تحيط بالحركة، داخليا وخارجيا.

 

لا يجب أن يفهم من تنحي مشعل عن قيادة حماس أنه سيخلد إلى الراحة، وسيلتزم بيته، ويتابع شئونه العائلية والشخصية، بل إنه سيبقى قريبا من دوائر صنع القرار في الحركة، ولعل العلاقة المتميزة التي تربطه بهنية، خليفته المنتخب، تعتبر أحد مفاتيح بقائه قريبا من مفاصل اتخاذ القرار.

 

هنا يمكن الحديث بكثير من الثقة أن هنية يكن لمشعل كثيرا من التقدير في ضوء علاقتهما المميزة التي تعود إلى سنوات طويلة، مما أوجد نوعاً من الكيمياء الشخصية بينهما، وجد وربماوربما لا يخفى على أحد أن مشعل كان يرغب بوصول هنية إلى قيادة المكتب السياسي، في ظل اشتراكهما بقواسم مشتركة، وانسجامهما في إدارة أمور الحركة خلال الدورة الانتخابية الأخيرة التي بدأت في 2013.

 

أكثر من ذلك، مشعل المقيم في قطر، ويتنقل في العديد من العواصم، يمتلك شبكة علاقات وثيقة داخل حماس في الأراضي الفلسطينية، وهذا سلوك طبيعي لقائد حركة يتوزع انتشارها جغرافياً على طول وعرض فلسطين وخارجها، وقد باتت ملء السمع والبصر.

 

تتوفر لدى مشعل دون سواه من القادة، أن الرجل له شخصية آسرة فيمن حوله، هو بشر، يخطئ ويصيب، لكن من يقترب منه، سواء في البعد الشخصي أو القيادي، يرى فيه صفات وسمات تجعله محط أنظار أبناء حماس

امتلاك مشعل لهذه العلاقات الوثيقة مع كوادر حماس وقادتها، ومعرفته بهم اسماً ولقباً، ميزة قيادية منحته قدرة كافية للإطلال على المشهد الحركي لحماس في فلسطين، وهو يبتعد عنها آلاف الكيلومترات، مما جعله قريباً من آليات اتخاذ القرار، ووفرت له فرصة جيدة للتأثير في بعض المراحل والأحداث المهمة.

 

ولا أظن أن الرجل سيفرط في هذه العلاقات التي بناها خلال سنوات وعقود ماضية، بل قد يعمل على المحافظة عليها، وتوطيدها، لما فيه مصلحة حماس، التي تعتبر مشروعه الحياتي، سواء كان قائدها أو جنديا فيها.

 

يمكن الإشارة إلى مسألة في غاية الأهمية قد تتوفر لمشعل دون سواه من القادة، أن الرجل له شخصية آسرة فيمن حوله، هو بشر، يخطئ ويصيب، لكن من يقترب منه، سواء في البعد الشخصي أو القيادي، يرى فيه صفات وسمات تجعله محط أنظار أبناء حماس، حتى وهو يغادر موقع قيادتها، وهو ما سيدفعهم بالضرورة للبقاء على اتصال معه، وطلب استشارته، والاستعانة بخبرته الطويلة في قيادة الحركة.

 

العلاقات الخارجية

لعل ما قد يطمئن مشعل على قيادة حماس بعد رحيله عن قيادتها، أن أبا العبد، خليفته المنتخب، يقترب كثيرا من صفاته الشخصية، سواء في التواضع مع الآخرين، الاستماع لآرائهم، المحافظة على خط الرجعة مع الخصوم، وعدم قطع شعرة معاوية معهم.

 

صحيح أن الاثنين ليسا نسخة كربونية عن بعضهما البعض، لكن ما بينهما من توافق وانسجام قد يوفر الكثير من الجهد والوقت في النقاشات التي تخص قضايا أساسية تخص حماس، وربما ليس سراً أن مشعل وهنية كانا متفقين في كثير من المسائل خلال السنوات السابقة، ورغم أن مواقفهما ليست متطابقة، وهو ما ليس مطلوبا بالضرورة، لكن لغة التفاهم بينهما كانت حاضرة، وهو ما قد يعبد الطريق أمام هنية خلال المرحلة القادمة.

 

مشعل الذي يغادر قيادة حماس بصفة رسمية، سيكون قريبا من هنية، ناصحا له، مسديا له المشورة، الأمر الذي سيكون الأخير بحاجة له، فضلا عن فتح مشعل لخطوط اتصالات إقليمية ودولية أمام خليفته لترميم علاقات حماس الخارجية، وتهيئة الأجواء لها لاستعادة تلك العلاقات.

 

كاتب السطور استمع لكثير من الترحيب من أوساط مشعل بانتخاب هنية، وأبدوا تفاؤلا بقدرته على إدارة دفة الحركة في هذه المرحلة العصيبة، ولعل تفضيل مشعل أن يعلن بنفسه عن انتخاب هنية لقيادة حماس شكل مؤشرا واضحا على ارتياح نفسي وشخصي لدى مشعل بهذا التطور، مما سيكون له أثره على إنجاح هذا التجربة الجديدة في حماس، بانتقال دفة القيادة من زعيم لآخر بسلاسة ويسر.

 

صحيح أن دكتاتورية الجغرافيا التي تحيط بغزة، حيث يقيم هنية، قد تحرمه من سهولة التواصل التي انفرد بها مشعل مع القادة والزعماء والمسئولين في الدول العربية وحول العالم، في ظل إغلاق معبر رفح، وعدم وضوح الموقف المصري بعد من انتخاب هنية، حيث لا أحد يعلم حتى كتابة هذه السطور بمسألة هل سيبقى هنية مقيما في غزة، أم ينتقل للخارج، وفي الحالتين سيكون مشعل قريبا منه.

 

إن مشعل بهذه التجربة الانتخابية، وهو يعلن فوز خليفته المنتخب قيادة حماس، وهو ما زال على قيد الحياة، وبكامل لياقته البدنية، وكفاءته القيادية، إنما يسجل له ولحماس صفحة جديدة، جديرة بالاحترام لهذا الرجل

فإن بقي في غزة، فقد يستعين بطواقم العمل التي كانت تعمل مع مشعل في الفترة السابقة، سواء الممثلين الشخصيين لحماس في بعض عواصم العالم، أو المبعوثين الخاصين، وسيكون مشعل سعيدا بأن يسخر هذه الإمكانيات والكفاءات خدمة لخليفته، لمصلحة حماس، أولا وأخيراً..

 

وإن فضل هنية الانتقال إلى الخارج، فسيكون أكثر قربا من مشعل، ولعلها فرصة لزيادة الكيمياء الشخصية بينهما، وتنسيق المواقف أكثر، ومنح هنية مفاتيح خاصة في العلاقات الخارجية لم تكن لتتوفر له لو بقي مقيما في غزة.

 

أخيراً… فإن مشعل بهذه التجربة الانتخابية، وهو يعلن فوز خليفته المنتخب قيادة حماس، وهو ما زال على قيد الحياة، وبكامل لياقته البدنية، وكفاءته القيادية، إنما يسجل له ولحماس صفحة جديدة، جديرة بالاحترام لهذا الرجل، الذي كان بإمكانه أن يطوع نصوص اللوائح بما يخدم بقاءه على رأس القيادة، كما يفعل الكثير من زعماء المنطقة، لكنه أراد الالتزام بالمؤسسة، والانصياع للائحة، والانقياد أمام النصوص.. فالتحية لمشعل قائداً، وجندياً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.