شعار قسم مدونات

فقراء العمارة

blogs - hasan fathy
ها أنا ذا أعلن إفلاسي على طريقة من لا نجد أي إنجاز يذكر في حياتهم تقام من أجله المؤتمرات وتكثر حوله الآراء إذ قررت أن أخوض في موضوع قتل بحثا وجدلا، والحقيقة أنه ما كان لطفل حديث عهد بالعمارة مثلي أن يكون صاحب رأي.. فقد يبدو هذا الرأي ساذجا طفوليا مبنٍ على قراءات متواضعة وهذا ما أخشى أن تفضحه السطور القادمة…

منذ سنوات قليلة بدأت الاهتمام بالقراءة في الفكر المعماري وبدأت أواظب على حضور الندوات واللقاءات وحلقات النقاش وخلال تلك الفترة المتواضعة جدا بدأت ألحظ أن هناك موضوعات دائما ما يتم طرحها للنقاش لسد خانة ندوات عجز منظموها عن تحضير موضوع، من أشهر تلك الموضوعات الجدل حول تجارب المعماري المصري حسن فتحي الذي رحل عن عالمنا منذ ما يقرب من الثلاثين عاما ولا زالت أعماله وتجاربه مسرحا لإبداع من لديهم موهبة الكتابة وملكات الخطابة.

حسن فتحي وغيره من الرواد المجددين ساهموا بمنتج معماري أبقاهم وسيبقيهم أحياء بعد رحيلهم، فهلا أنتجنا لعل أعمالنا تصبح موضع خلاف للأجيال القادمة بدلا من أن نضيع الوقت والجهد في الجدال.

لم يعرف حسن فتحي في مصر إلا بعد أن انتشر كتابه الذي أعده باللغة الإنجليزية عن تجربته في قرية "الجرنة" والذي ترجم إلى العربية بعنوان "عمارة الفقراء".. وكان من البديهي حينها أن يلتف حوله الكثير من المعجبين والمريدين وأن يواجهه أيضا الكثير من النقاد غير الراضين.. وأن تمتليء الصحف وقتها بالمقالات المرحبة بالتجربة والأخرى المعارضة لكن من غير الطبيعي أبدا أن يستمر الجدل ما يزيد عن النصف قرن! 

اتجاهات معمارية تظهر على اتجاهات أخرى تندثر، ولا زلنا نناقش ما إذا كانت تجربة فتحي ناجحة أم فاشلة! لا زال هناك الكثير من فقراء العمارة وأصحاب السبوبة يدعون أنهم من تلامذة الأستاذ.. وسبق وأن تبرأ فتحي من كل من اتخذ من القبة والقبو أدوات جذب وسبيل لقلوب العملاء من مرضى الحنين للماضي والانبهار بالتقليدي دون وعي بوظيفة أو رمزية.
 
أدوات ووسائل تعليمية تتطور يوما عن يوم ولا زال فريق من أساتذة العمارة يوجهون طلابهم تصميم مشاريعهم على طريقة حسن فتحي.. الذي لا طالما صرخ بأعلى صوته أنه لا يؤسس لطريقة وإنما يؤسس لفكر من شأنه أخذ البيئة والمجتمع والتراث المحلي عين الاعتبار، مصطلحات وخامات جديدة تغزو أسواق المعمار يوميا ولا زالت هناك بعض الأصوات "العبيطة" التي تنادي بعمارة الطين.. في بلد امتنع عنه الطين منذ خمسين عاما.

على الجانب الآخر نجد أنه لا زالت هناك ندوات ومؤتمرات تعقد للتسفيه والتقليل من تجربة فتحي! لا زالت هناك أصوات تحمل فتحي مسؤولية جريمة التهجير القسري لأهالي الجرنة، والعجيب أن أصحاب تلك الأصوات من أنصار الكادحين صمت آذانهم لما سمعناه بيقولها قوية.. ساعة لما قلنا "هنبني وادي احنا بنينا السد العالي".. عندما تمت حينها أعظم عملية تهجير قسري في التاريخ اندثر معها تراث أمة بأكملها وراح ضحيتها عشرات المعابد والمقابر!

عميت أبصارهم عندما رأينا الجرافات تتجه إلى الجرنة نفسها في أواخر تسعينات القرن الماضي لتجبر بعض الأهالي على الإخلاء بالقوة! سكتت ألسنتهم عندما تكرر المشهد قبل أحداث يناير 2011 وأجبرت السلطات من تبقى من أهالي الجرنة على الإخلاء.. وقامت قوات الشرطة بإلقاء أمتعة الناس من منازلهم! لم يروا كل هذا لكن لم تكف ألسنتهم عن ذكر الجريمة التي زعموا أن ارتكبها حسن فتحي في حق الجرنويين!

أيضا لا زال هناك من ينظر بعين الشماتة لمباني الجرنة التي هدمت واستخدم حطامها في تمهيد وردم الطرق.. وأخواتها في باريس التي لا زالت ملجأً للأشباح! بالطبع أنا لا أكتب من أجل أن أدرأ عن حسن فتحي تهمة الإخفاق أو أدعي له أو لغيره المثالية.. فعن نفسي لا أتفق مع أسلوبه في التعامل مع التراث وأنتقده في مسألة تجاهله لنفسية فلاحي الجرنة ونظرتهم للقبو والقباب.

صمت آذان الناقدين "لما سمعناه بيقولها قوية.. ساعة لما قلنا هنبني وادي احنا بنينا السد العالي".. عندما تمت حينها أعظم عملية تهجير قسري في التاريخ اندثر معها تراث أمة بأكملها وراح ضحيتها عشرات المعابد والمقابر!

لكن لكم أن تتخيلوا لو أن تلامذة حسن فتحي قد بدأوا من حيث انتهى هو واستكملوا طريق أستاذهم في العمارة البيئية وجدوا في البحث في سبل عمارة الأرض والتعامل مع المجتمع بدلا من المتاجرة بالقبة والقبو، ولو أن منتقديه قد انتقدوه بموضوعية وقدموا لأتباع مدرسته حلولا وتوصيات من شأنها التقويم والإصلاح بدلا من الشخصنة والتشكيك في النوايا.
 
لكم أن تتخيلوا لو أننا تعاملنا مع حسن فتحي وغيره من الرواد كحالة إبداعية ملهمة! لكننا فضلنا الطريق الأسهل.. فريق مؤيد.. وفريق معارض.. "واهو حاجة تنفع لما ما نلاقيش موضوع نتكلم فيه!" 

حسن فتحي وغيره من الرواد المجددين ساهموا بمنتج معماري أبقاهم وسيبقيهم أحياء بعد رحيلهم، حتى وإن كان منتجهم هذا موضع خلاف.. فهلا أنتجنا لعل أعمالنا تصبح موضع خلاف للأجيال القادمة بدلا من أن نضيع الوقت والجهد في الجدال؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.