إذا كان في الشعر "المعلقات السبع" وهي الروائع الخالدات من الشعر العربي الجاهلي والتي كُتبت بماء الذهب وعُلقت على أستار الكعبة ذات زمن مضى.. ففي الرياضيات اليوم نحن بصدد "المسائل المليونية السبع" وهي أصعب المسائل التي حيرت عقول الرياضيين قديما وحديثا، تلك المعضلات المعلقة اليوم على جدران معهد "كلاي" والتي أُُفرد لكل واحدة منها جائزة بقيمة مليون دولار، ولم تُحل منها إلى يومنا هذا سوى "حدسية بوانكاري" على يد المَهْووس الروسي "غريغوري بيرلمان..".
و إن كان جمال الشعر العربي تحكمه البحور الستة عشر، حيث كان الشعراء الأوائل ينظمونه بالسليقة والفطرة دون علمهم بالبحور ولا بالتفاعيل والعروض، والتي لم توضع إلا بعد قرون، بعد أن أتى الخليل بن أحمد الفراهيدي ليكتشف قانون التفاعيل الذي يحكم الأشعار العربية.. إن كان في هذا كله مدعاة للغرابة، ففي الرياضيات أجد الغرابة ذاتها مع "العدد الذهبي". كان الجمال موجودا منذ القدم بقدم الكون، فأتى بعد ذلك العلماء ليكتشفوا أن هذا العدد هو عنوان الجمال وشيفرته الأصلية، حيث أن معظم المآثر التاريخية الخالدة كأهرام الجيزة وحدائق بابل والخرلدة غيرها يخضع للنسبة الذهبية والتي تمثل بالنسبة للجمال – خاصة المعماري منه – بمثابة البحور للشعر العربي. وإن كان للشعراء شاعرهم الجاهلي اليهودي "السّمَوْأَل" المعروف، فللرياضيين عالمهم، والذي كان يهوديا قبل إسلامه، "السّمَوْأَل المغربي" .. ولو استطردنا في البحث والتوسع لما توقفنا في استنباط هذه الموافقات العجيبة التي تجمع بين الشعر والرياضيات..
حينما يتناقش الرياضيون فيما بينهم لا يقتنعون بالبرهان من الوهلة الأولى بقدر ما يحللون الطريقة التي تعلل بها صحة النتائج، وهنا أيضا يستعمل الرياضي لغة ذاتية خاصة به في إيصال المعنى الذي يرومه. |
يقول عالم الرياضيات الفرنسي المعاصر Cedric Villani الحاصل على وسام Fields -أعلى وسام في الرياضيات- سنة 2010:
"الجمع بين الرياضيات والشعر، ألا يوحي ذلك بشيئ من الإثارة؟!
أولا لست أول من يزعم بوجود موازاة بين الشعر والرياضيات، وأغلب الرياضيين يعرفون القولة الشهيرة للرياضية الروسية الكبيرة Kovalevskaïa Sofia حينما قالت: لا يمكن لأحد أن يكون رياضيا ما لم تكن له روح شاعر..
قد يكون في ذلك شيء من الرومانسية التي ميزت العصر الذي عاشت فيه لكن ذلك لا يخلو من حقيقة تَعوُدنا وتفاعلنا نحن الرياضيين مع كل ما فيه إبداع وخيال، وهما ركيزتان أساسيتان لكل من أراد أن يصبح رياضيا حقا، يغوص في ما ذهب إليه الرياضيون الآخرون ويفتح آفاقا جديدة..
و يمكننا أن نستدل على التوازي بين الرياضيات والشعر من عدة جوانب، إلا أن هناك ثلاث نقاط اشتراك كبرى بينهما، وأولها يتعلق في سعي كلا المجالين إلى إنشاء عالم جديد، عالم يتسم بكونه "تخيلي" إلا أنه مستلهم من العالم الذي نعرفه، وهو عالم مزدهر بعناصر أكثر قوة وأكثر فاعلية..
القاسم المشترك الأكبر الثاني يتمثل في اعتماد الرياضيين والشعراء على حد سواء على "قوة الكلمات"، حيث تتميز التعاريف الرياضية والقصائد الشعرية والتي تحمل معاني محددة بتلك القدرة الفذة على اختيار التعريف الأمثل والمفهوم الأنسب الذي يجعل الأشياء واضحة بشكل انسيابي فيكون بمثابة مفاتيح تقدح الشرارة في ذهن المتلقي..
كما أركز أيضا على طبيعة الصعوبات التي تعتري اللونين معا (رياضيات-شعر)، الشعر طبعا هو الفن الأدبي الأصعب على مر التاريخ، بالرغم من ذلك فمخيلة الشاعر تفرض نفسها داخل هذا الفضاء الذي تحفه الصعاب، مما يجعل الأمر أكثر استهواء وإثارة، نفس الأمر نجده لدى الرياضي، حيث يلعب هذا الأخير في خضم الصعوبات والعوائق بدقته الصارمة وخياله الواسع ليُخضعها بعد ذلك للمنطق، حيث نجد كلا من الشاعر والرياضي أو الفيلسوف بصدد وصف العالم، وهنا تأتي النقطة الثالثة، حيث يسعى الرياضي لوصف العالم بطريقة كمية قابلة للتحقق مع إمكانية نقلها من فرد لآخر، مع الاحتفاظ بنفس الخلاصات والاستنتاجات، كذلك الشاعر يصف العالم بطريقة يتقاسم فيها مع المتلقي حسه الشاعري الذاتي..
حينما يتناقش الرياضيون فيما بينهم لا يقتنعون بالبرهان من الوهلة الأولى بقدر ما يحللون الطريقة التي تعلل بها صحة النتائج، وهنا أيضا يستعمل الرياضي لغة ذاتية خاصة به في إيصال المعنى الذي يرومه..".
لحظات تميز حياة كلا من الرياضيين والشعراء تتميز بصعوبتها والمآزق التي تحفها، لكن هذه الصعوبات مهما طالت لا تستطيع المقاومة أمام العامل المشترك الآخر بين الشعراء والرياضيين ألا وهو الإلهام. |
من بين أوجه الالتقاء بين الرياضيات والشعر نجد أيضا "الأناقة"، فالرياضي لا يستسيغ عامة البراهين غير الجمالية التي فيها إسهاب أو حشو كما أن الشاعر يبتعد كل البعد عن التعابير الركيكة حيث تستهويه المشاهد التصويرية البديعة لموضوعه، وعامل الأناقة لدى الرياضي والشاعر على حد سواء يمكن النظر إليه من زاوية أخرى على أنه وليد المعاناة الناتجة عن المخاضات العسيرة بصيغتيها العقلية لدى الرياضي والعاطفية لدى الشاعر، الأمر الذي يحيلنا إلى وجه تشابه آخر ألا وهو "الصبر وعدم الاستسلام" في خضم تلك المعاناة التي يواجهها كل واحد منهما.
فالرياضي مثلا قد يُهدر شهورا بل سنوات من أجل حل معضلة رياضية أرّقت باله، مما يكون سببا في سهره المتواصل فيألف شيئا فشيئا حتى يصير الليل ووقت السحر أفضل أوقاته لحل المسائل المستعصية. نفس الأمر تماما نجده لدى الشاعر الذي يستهويه الليل وأوقات السهر والسمر، ونجد ذلك جليا في الكثير من الأشعار، حيث يضع الشاعر عصارة قلبه وعقله لاستخراج الجواهر والدرر الكامنة وقولبتها على شكل قصائد، الأمر الذي يكون مستعصيا في أغلب الأحيان، حيث نجد أن بعض الشعراء يستغرق حولا كاملا من أجل إخراج قصيدته إلى نور الوجود في ما يُعرف بالحوليات، وهي القصائد التي يَنظمها ولا يظهرها إلا بعد مرور حول كامل من المراجعة والتهذيب!
إلى هذا المستوى نجد لحظات تميز حياة كلا من الرياضيين والشعراء تتميز بصعوبتها والمآزق التي تحفها، لكن هذه الصعوبات مهما طالت لا تستطيع المقاومة أمام العامل المشترك الآخر بين الشعراء والرياضيين ألا وهو الإلهام، والذي تتنوع موارده بين الطبيعة والجمال وكشف اليد الخفية التي تعمل بين الأشياء.. ننبه هنا على أننا لا نعني بالإلهام ما يذهب إليه البعض بكونه تلك القوى "السحرية الخفية" التي تكون مصدرا لإلهام الشاعر أو الرياضي كما يروى عن بعضهم، وأن لكل رياضي وشاعر "شيطانه" الخاص به، والذي يُلهم الأول الحلول والأفكار الإبداعية، ويوحي للثاني بالقصائد الساحرة..
كل هذا -مع ما يثيره من اختلاف- بالنسبة لنا بعيد كل البعد عن الواقعية ولا يعدو أن يكون ضربا من الترف والإسهاب المجازي.. وما نرمي إليه بعامل الإلهام هنا، تلك العوامل المتنوعة التي تتراكم وتتفاعل داخل عقل الرياضي ووسط وجدان الشاعر، وأهمها حب الرياضي للرياضيات والبحث، وشغف الشاعر بالشعر، ثم تأتي بعد ذلك العوامل والظروف السياسية والتاريخية والواقعية التي يتفاعل معها كل منهما بحسب حاجاته وقدراته..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.