إن الناظر إلى الواقع الأسري في المتجمعات المسلمة باختلاف أعراقها وثقافاتها، وما تكدست به المحاكم الأسرية من ملفات الطلاق، وكذلك ما تعانيه كثير من الأسر من جفاء الأزواج والصراع الدائم الناتج عن تفاوت تفكير الأزواج واختلاف نظرة كل منهما للحياة، وما ينتج عن ذلك من مشاكل لدى الأطفال والأبناء بصفة عامة، يستصعب أمر الزواج، وخاصة الشباب المقبلين على الزواج سواء كان ذكراً أو أنثى.
قد صادفت مجموعة من الشباب الذين أصيبوا بالخوف من اقتحام عتبة الزواج بسبب هذه العوامل التي تطفوا يوماً بعد يوم في المجتمعات المسلمة النامية. وكذلك يستحضرون حجم المطالب التي يطالب بها المقبل على الزواج ويفرضها عليه الواقع والعادات والتقاليد. كل هذه الأسباب وغيرها تقف حائلاً بين كثير من الشباب وبين الزواج.
ما السبب الذي أدى إلى تكدس المحاكم الأسرية بملفات الطلاق؟ وهل يرجع ذلك إلى العاطفة (انعدام الحب) أم إلى عدم التوافق على المسائل المادية؟
يجب أن يراعي الشاب أو الشابة في شريكه التدين والالتزام بشرع الله لتعظيم الميثاق الغليظ، وصيانة حدوده وذلك بوازع الخوف من الله تعالى وعقابه. |
لا يخفى على المتتبع للوضع الأسري وما وصلت إليه من جفاء في كثير من الأحيان، وما ينتج عن ذلك من حالات الطلاق، وأن السبب هو غياب الجانب العاطفي بين الأزواج، وتغليب الماديات في كثير من الأحيان، دون الالتفات إلى تمتين الجانب العاطفي لديهم بالوسائل المختلفة المؤدية إلى ذلك. ولذا كما يقول المثل "الوقاية خير من العلاج" فلابد من بناء مؤسسة الزواج على أسس متينة وقواعد راسخة، لا تزعزعها ريح الأوضاع الاجتماعية التي تتقلب فيها الأسر.
اختلف العلماء على هذه القواعد والأسس، والتي يضعون لها في كتبهم عنوان "الكفاءة" في الزواج، والتي تعني في اللغة "المماثلة" و"النظير" بحيث تتبعوا فيها مجموعة من المسالك وأكدوا فيها على مجموعة من الاعتبارات التي يجب أن تكون حاضرة أثناء اختيار الزوج لزوجته، وكذلك الزوجة لزوجها. ونذكرها هنا في عجالة وهي على الشكل التالي:
الاعتبار الأول هو الدين:
بحيث يجب أن يراعي الشاب أو الشابة في شريكه (ها) التدين والالتزام بشرع الله، وأن لا يتنازلوا في اختيارهم عن هذا الاعتبار لورود مجموعة من النصوص الشرعية في اعتباره. وهذا الاعتبار يدفع كلاً من الزوجين إلى تعظيم الميثاق الغليظ، وصيانة حدوده وذلك بوازع الخوف من الله تعالى وعقابه.
الاعتبار الثاني هو النسب:
هذا الاعتبار يقوم على أساس الحسب، ومراعاته يؤدي إلى ذلك التقارب الأسري بين الزوجين، وتقارب التفكير فيما بينهم، وذلك لطبيعة المطالب اليومية التي تعودوها قبل الزواج، فيكون هناك شيء من التقارب النفسي والعاطفي بين الزوجين.
الاعتبار الثالث هو الحرفة أو الوظيفة:
فهذا الاعتبار مهم في التقارب النفسي والعاطفي بين الزوجين، بحيث يجب أن تكون حرفة الزوج أو وظيفته متقاربة مع ما هو عليه حال أهل الزوجة، لكي لا يحصل النفور العاطفي بينهم أو احتقاره وغير ذلك مما نراه في زماننا. وغيرها من الاعتبارات التي يجب أن يراعيها المقبلون على الزواج أثناء اختيارهم لشركائهم في الحياة، وتبقى هذه الاعتبارات محل نظر لدى الفقهاء والعلماء، وخاصة اعتبار النسب والحرفة والاعتبارات الأخرى.
لقد أعطيت الصلاحيات لأولي الأمر والأوصياء النظر في مدى توافق الزوجين وفق هذه الاعتبارات، وقد منحوا لهم الصلاحية في الرد أو الموافقة، وقد وصل ببعضهم إلى القول بإكراه البكر والثيب على الزواج، مما يرونه موافقاً لهذه الاعتبارات. ولذا سأحاول التفصيل هنا في اعتبار لم يذكره الفقهاء عندما فصلوا في "الكفاءة" قولهم، كونهم يتناولون المسائل من الناحية الشرعية ومراعاتهم للنصوص.
ضرورة تحصين مؤسسة الأسرة من العبث، ومن السبل الرديئة المؤدية إليها، كما هو الحال في كثير من الحالات التي تكون إكراهاً في بعض الأحيان، أو اضطراراً، أو غيرها من السبل الغير الشرعية. |
هذا الاعتبار يمكن أن أطلق عليه، "اعتبار الحب"، وهنا لابد من التوضيح كي لا يختلط الأمر على القارئ بين الحب الذي أعنيه، وما هو شائع اليوم من خِلِّية وما نشاهده من ثنائيات للذكور والاناث، وما ينتج على ذلك من ممارسات لا يقبلها عاقل خارج مؤسسة الزواج. تقليداً منهم بذلك ما يبث في الفضائيات، والمسلسلات.
الحب الذي أعنيه هنا ما قصده ابن القيم في كتابه روضة المحبين ونزهة المشتاقين قوله: "ما قام بالمحبوب من الصفات التي تدعو إلى محبته وما قام بالمحب من الشعور بها والموافقة التي بين المحب والمحبوب وهي الرابطة بينهما وتسمى بين المخلوق والمخلوق مناسبة وملاءمة".
أمور وصف المحبوب وجماله وشعور المحب به والمناسبة وهي العلاقة والملاءمة التي بين المحب والمحبوب، فمتى قويت الثلاثة وكملت قويت المحبة واستحكمت، ونقصان المحبة وضعفها بحسب ضعف هذه الثلاثة أو نقصها. واعتبار الحب في الزواج سماه ابن القيم الجوزية بالداعي، وذلك امتثالاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد أحدكم خطبة امرأة فلينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فإنه أحرى أن يؤدم بينهما".
يزيد ابن القيم توضيحاً لأصل تشاكل الأرواح وترابطها بقوله: "هذه المناسبة نوعان أصلية من أصل الخلقة وعارضة بسبب المجاورة أو الاشتراك في أمر من الأمور فإن من ناسب قصدك قصده حصل التوافق بين روحك وروحه، فإذا اختلف القصد زال التوافق فأما التناسب الأصلي فهو اتفاق أخلاق وتشاكل أرواح وشوق كل نفس إلى مشاكلها فإن شبه الشيء ينجذب إليه بالطبع فتكون الروحان متشاكلتين في أصل الخلقة فتنجذب إليه بالطبع فتكون الروحان متشاكلتين في أصل الخلقة فتنجذب كل منهما إلى الأخرى بالطبع.
لابد من التنبيه كذلك إلى دور الولي أو الوصي من التثبت من صدق الحب والتأكد من حقيقته، كي لا يكون لعباً بمشاعر البنت. "الإسلام ليس ضِد زواج الحب، بشرط أن يتأكد هو وتتأكَّد هي أن كلمة "أحبك" ليس وراءها النزوة العابرة، وإنما المحبة الخالصة التي يُرجَى لها أن تنمو بعد الزواج فتلتحم بلحام الرحمة والمودة والمخالقة والصبر." تنوير المؤمنات.
وفي ختام، يجدر الإشارة إلى ضرورة تحصين مؤسسة الأسرة من العبث، ومن السبل الرديئة المؤدية إليها، كما هو الحال في كثير من الحالات التي تكون إكراهاً في بعض الأحيان، أو اضطراراً، أو غيرها من السبل الغير الشرعية، وللتعمق في مسألة الكفاءة يجب العودة لأقوال الفقهاء وكتبهم المتخصصة. وكل هذا الشرح يعتبر تنويراً للرأي العام، وتنبيه الناس أن الإسلام: اعتبار التركيبة الروحية في التقارب، وفي تأسيس العلاقات، وخاصة العلاقة الزوجية التي تتسم بالدوام، وتنتج عنها أسرة وأطفال.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.