شعار قسم مدونات

الْمَقامَةُ الْحُسَيْنِيَّةُ

blogs - مولد الحسين
حدثنا نادر بن شريف، ذو القول الظريف، قال: «بينما أنا أسير في حي الأزهر، قريبا من المسجد الأنور، إذ بي أرى الزحام، كأنَّما نودي بالبعث في الأنام، والناس حولي من كل لون، فسألت فقالوا: مولد الحسين! فدفعني الفضول إلى تتبع هؤلاء البشَر؛ لعلي أظفر ببعض العِبَر، وكان أول ما قابلني بائعة الحِمَّص؛ إذ وقَف عليها رجلٌ أفطَس، فطلَبَ منها شيئًا يأكلُه، فأخذت تردُّه وتَخذُله، فمدَّ يدَهُ في المِقطَف، وأخَذَ ما يَملأ الكفّ، ومضى يأكله باغتياظ، وهي تسبُّه بأقبح الألفاظ، والناس ترمقهما بضواحك اللحاظ، وسار يهمهم باللعن لها والسباب، لكأنَّما فتحَتْ للسانه الباب…

ودخلت الساحة الخارجية للمسجد، فإذا هي ممشى ومجلس ومرقد، افترش الناس كل الأرصفة، بالحصير والفرُش والألحفة، وإذا بالأطباق والأواني تملأ المكان، والطعام موضوع على خوانٍ بعد خوان، واجتمع من على الرصيف سكن، كأنهم لم يأكلوا منذ زمن، كان هذا في أول شارع، وطعامهم الأرز والكوارع، فسرت سير المتباطئ؛ أخشى من الخابط والواطئ..

وسرت حتى حاذيت جانب المسجد، عند مدخل النساء للمرقد، فإذا صوان ضخم قد مُدّ، تأملته فإذا خليط من الرجال والنساء، وارتفع صوت الصِّوان بالغناء، وسمعت صوت المزامير والطبول، ورأيت الراقص الحَجول، والناس بين ضاحك ومصفِّق، فسرت بعيدًا عن هذا العمل الأحمق..

قلت: يا أخا الإسلام، إن كنتَ تُريد أن تستشفي، فلا تتعلَّق بأحد سوى الله وحده، واسأله من خزائن ما عنده؛ فهو المالك الأوحد، وهو الصمد المتفرِّد، يُجيب دعوة المضطر بلا شفيع، قال ادعوني وهو السميع.

وكلما ذهبت إلى جهة من الجهات، هان علي خطبُ ما فات؛ فالحمق متكاثر، والمصاب الجلل متناثر، حتى سلكتُ شارع مطبعة الحلبي، ولم تكن حاجتها ماسةً بي، فإذا صوت المنشد، يملأ المكان كالرعد المرعِد، فسرت متمهلاً من غير عجل؛ لعلمي أن كل شيء بأجل، حتى وصلت إلى المطبعة العريقة، فوجدت صوانًا لطريقة، وأمامه ثلاث بقرات سمان، أعدت للذبح والقربان.

يذبحونها لغير الله، وهذا أعظم الخسران ومنتهاه، وما طلبه الحسين ولا يرضاه، وإنما هو غواية الشياطين، وسلوك سبيل الجاهلين، وفعل المشركين، ووقفت أمام المطبعة، أستمع إلى المنشد ومن معه، فإذا صوته غاية العجب، كأنه آلة طرب، حتى إنه شد مسامعي إليه، وهممت أن أجلس إليه، فإذا هو يُنشِدُ زورًا، غره به الشيطان غرورًا، فحاولتُ أن أكتب مقالته لأرويها، ولأبيِّن صحيحها من الباطل فيها.

فأخرجتُ الدفتر من الحقيبة، فرُمقتُ بألحاظ غريبة، والحال في مصر عجيبة، فعدلتُ عما أكتُب، ووقفتُ وقوف المُعجَب، ثم لذتُ بالبعاد، ويكفي ما سمعتُ من الإنشاد، وكان معنى ما سمعتُ، مما له أنصتُّ، أن الرسول أصل الوجود، ومنه تفرع كل موجود، وأنه كان قبل العهد والميثاق، معروفًا بأنه الترياق، محبوبًا في السماء قبل الخلق، زاعمًا أن قولته الحق، وهذا وربي قول باطل، لا يقوله إلا عن العلم عاطل، والحق في الآية الشريفة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، فكان آدم أول الناس في الوجود، ومنه كان البيضُ والسود، وما نبينا إلا ولد آدم، غير أنه سيد العالم، صلى الله عليه وعلى آله، وعلى السائرين على منواله.

وأويت إلى درب الأتراك العتيق، أرتاح من وعثاء الطريق، فإذا هو مكتبات خلت إلا من أصحابها، فحزنت وتألمت لما حلَّ بها، وأويت إلى المسجد، لعلي أجلس أو أرقد، فإذا بي أسمع الصراخ والسباب، وكأن الحرب قامت بالباب، فنظرت فإذا رجلان تعاركا، وتسابا وتشابكا، وعيَّر كل منهما الآخر بما يعرف، وكلاهما لصاحبه يهذي ويهرف، والناس يحولون بينهما، كأنما حل الجنون بهما، فركبت نعلي على عجل، ودخلت بينهم من غير وجَل، وحاولت استجلاء الخبَر؛ لعلي أرفع عنهما الضَرر.

فإذا هما أخوان ابنا أب وأم، يتصارعان على دنيا العدم، فأمسكت بيد أقربهما مني، وحاولت صده عن التجني، ثم سرت به بعيدًا عن أخيه، وذكرته بأمه وأبيه، وقلت له يا حبيب، أخوك لك الطبيب، والدنيا كلها لا تساوي الأخ، فأطرق هامسًا: أخ، ثم رفع رأسه، وأعاد إليه نفسه، وقال يا مولانا أنت صاحب إحقاق، لكنه من بدأنا بالشقاق، سرق "فيزا" الوالد، وكان لحقنا الجاحد، فلما حاولنا نْهَيه، أقبل يحمل بغْيَه، فحاولتُ إذهاب الثورة عنه، واستلال السخيمة منه، ثم عدتُ إلى ساحة المولد، وما لي غير الاعتبار مقصد.

عدتُ إلى الساحة لحظ الغروب، فزادت النفسَ كروبًا على كروب، وأخذت أجول بين الحضور، فهذا حزين وهذا مسرور، وأخذت أقرأ وجوه الزوار، كعالم ملأ بالكتب الدار، همُّه العِبرة والاستبصار، وأقبل الناس من كل فجّ، كأنهم دعاهم داعي الحج، وهم بين صوفي مُريد، وبائع مُستفيد، ومُتنزِّه يبحث عن ملهى، ومُضلٍّ بالناس يتلهَّى، وأجنبيٍّ جاء للسياحة، وكلُّهم قد ملأوا الساحة.

وبينما أسير في اكتئاب، رأيت ثلاثة من الشباب، قد ملأت وجوههم الضحكات، وارتفعت منهم الأصوات، فقلت لعلهم رأوا ما يسرّ، فإذا أمامهم كل شرّ، رأيت امرأة تبرقعَتْ، كأنها الشمس تقنَّعت، قد وضعت المكياج، ولها دلٌّ واعوجاج، أظهرت العينين وشَطْر الخد، فكأن جمالها ما له حد، جلستْ تُدخِّن الشيشة، كأنها تاجر حشيشة، وبجوارها الأولاد والزوج، يتتابع دخانها كالموج، فعجبت لهذا الزوج النطع، وقد صارت الدياثة فيه الطبع.

ووالله ما غار من نظرنا إليها وما ضجر، بل كان مبتسمًا والناس تَسترِقُ النظر! يظنها الناس من ذوات النقاب، ويقولون هذا عجبٌ عجاب، فاقتربت من مجلسها أكثر، لعلي بحقيقتها أظفر، فسمعت رجلاً ساءلها: ما للبُرقع ولها، فقالت بتسكُّع، وقد رفعت عن وجهها البُرقع: لبستُه لأتصوَّر، لا أقلَّ ولا أكثَر، ولما رأيتُ سِحنتَها، بعدما خلعتْ زينَتَها، قلتُ صدق قول القائل، والحق قول الأوائل: كم من براقع، أخفتْ تحتَها ضفادع! وقلتُ كم مِن جاهلة خرقاء، أضلَّتْ بسوء فعلها الدهماء، نسأل الله منهنَّ السلامة، وأن يُجنِّبنا فتنتهنَّ إلى يوم القيامة.

أقبل الناس من كل فجّ، كأنهم دعاهم داعي الحج، وهم بين صوفي مُريد، وبائع مُستفيد، ومُتنزِّه يبحث عن ملهى، ومُضلٍّ بالناس يتلهَّى، وأجنبيٍّ جاء للسياحة.

وسألني رجلٌ وامرأته عن المستشفى، فأعلمتُهما بمكانه وكفى، ثمَّ سألاني عن مرقد الحسين ومقامه، فظننتُه يريد الاستشفاء به من أسقامه، فسألتُه: هل تريد الاستشفاء أو الزيارة؟ وقبل أن أسمع ردَّه، وقد كنتُ أخشى صدَّه، بادرتُه بالكلام، وبالغتُ له في الودِّ والاحترام، وقلت: يا أخا الإسلام، إن كنتَ تُريد أن تستشفي، فلا تتعلَّق بأحد سوى الله وحده، واسأله من خزائن ما عنده؛ فهو المالك الأوحد، وهو الصمد المتفرِّد، يُجيب دعوة المضطر بلا شفيع، قال ادعوني وهو السميع.

قال الرجل وزوجته، وقد بدت مسرَّتها ومسرَّتُه، بل أردنا الزيارة فقط، وما لنا عند الحسين طلب قط، فأشرتُ له إلى القبر المزعوم، رغم علمي بأن وجود الحسين فيه موهوم، وقلت هذا قبر الإمام، فادخلا وألقيا السلام، وسلِّما على الحُسين وجدِّه، ولا تزيدا عن حدِّه ولا تتعلَّق بغير المليك، سبحانه وحده بلا شريك، فشكرني وزوجته، وقد أجيبت سُؤلتُه، ومضى بحياء، وهي معه على استحياء، وسألت الله لهما الفضل وتمام الهداية، وأن يَصرف عنهما مداخل الغواية.

وهممتُ بالخروج من هذه الأرجاء، فإذا صوتُ المؤذن ينادي لصلاة العشاء، فهُرعت إلى الجامع الأزهر، ذي البهاء الأنوَر، ودخلتُه فكأنه قطعة من الجنة هبطَت، أو رحمة من رحمات ربي نزلَت، فصليتُ وحمدتُ الله على ما أولاني من العِبَر والعظات، ورجوتُه العفو وغفران السيئات، إنه رحيم قريب مجيب الدعوات». ثم قام نادر مؤذنًا برحيله عنَّا، شاكرًا لنا ما كان منَّا، فودعته وداع المحبِّين، راجيًا لقاءه بعد حين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.