شعار قسم مدونات

ما أجمل أيام الرقابة

blogs - camera
لا أحد يلوم المواطن العربي عندما تصيبه الصدمة مما يصدر عن الإعلام العربي الرسمي أو الخاص بسبب مستوى الانحطاط القيمي والهبوط الأخلاقي الذي يكتنف هذا الاعلام، ولا يوجد مواطن عاقل أو متابع واع لا تصيبه حالة الغثيان من تردي أداء إعلاميين نصبوا من أنفسهم منابر للحديث عبر القنوات الفضائية أو وسائل الإعلام الجديد، فهذا المواطن المخضرم شهد الأيام الخوالي أيام الرقابة ومقص الرقيب أيام الأسود والأبيض فيتذكرها بحسرة وألم.

أيام الرقابة ومقص الرقيب لم يكن يسمح بالبث المباشر إلا لخطاب الرئيس أو مباراة كرة القدم المحروسة بالشرطة والأمن الظاهر والباطن وخطبة الجمعة المكتوبة سلفا للإمام، ولا يجوز له الخروج عن النص، لأن أحد رجال الأمن الحاضرين يتابع معه نص الخطبة بحركاتها كطالب الابتدائي.

وما دون ذلك من برامج فيجب تصويرها ومونتاجها قبل البث، فتمر على الرقيب الذي يقص كل مشهد وكل كلمة وكل همسة، وكل لمزة تطال الرئيس أو النظام بالتلميح قبل التصريح.. نعم كان يحدث ذلك ولكن في الوقت نفسه كان هذا الرقيب أخلاقيا ملتزما بأخلاقيات مهنته وقواعد السلوك القويم في مجتمعه، فلم يكن يسمح بأي كلمة أو مشهد يمس الأخلاق أو القيم أو تجرح شعور مواطن أو تخدش حياء إنسان.

نعم كان الرقيب يحمي النظام وأركانه ولكنه للحق كان يحمي الأخلاق والقيم ولو حدث أن سقطت سهوا إحدى اللقطات المخلة أو الكلمات الخارجة عن حدود الأدب وفلتت هذه الكلمة من مقص الرقيب، كان هذا الرقيب يعاقب فورا بالتوبيخ أو الفصل، لأن من شأن هذه اللقطة أو الكلمة تأليب الرأي العام والمساس بالشعور الديني والأخلاقي للأمة. كل هذا أيام الأبيض والأسود فماذا يحدث في زمن الألوان والديجيتال؟

اقتنى المواطن أحدث الأجهزة من شاشات عملاقة وحواسيب وجوالات؛ لكن ذهبت عنه الطمأنينة وامتلأ قلبه رعبا وخوفا من أن تقع أي مادة إعلامية في يد طفله أو تحت بصر ابنته.

لقد تقدمت وسائل الإعلام على الصعيد التكنولوجي والأقمار الصناعية والديجيتال والأتش دي، وعلى صعيد الإعلام الجديد صار كل من يملك هاتف خليوي بمقدوره أن يدخل عالم الإعلام وتصبح له كلمة مسموعة عبر الأثير، ويسمع لرأيه ولو من قلة من الناس يتكلم بسخيف القول، وأسوأ الحديث لمن هم على شاكلته، وانتقلت عدوى قلة الأدب إلى الإعلاميين الرسميين على الشاشات الرسمية التابعة للدولة، وعلى القنوات الخاصة ظهر إعلاميون يسمون أنفسهم بالكبار يستخدمون عبارات سخيفة وكلمات هابطة دون رقيب أو حسيب ويصورون مشاهد فاضحة دون رقيب أو حسيب ويقتحمون على الناس خصوصياتهم دون رقيب أو حسيب. فما أجمل أيام الأسود والأبيض!

نعم اقتنى المواطن أحدث الأجهزة من شاشات عملاقة وحواسيب وجوالات؛ لكن ذهبت عنه الطمأنينة وامتلأ قلبه رعبا وخوفا من أن تقع أي مادة إعلامية في يد طفله أو تحت بصر ابنته المراهقة التي رباها على العفة والطهارة، هذا الخوف ناشئ من انعدام الثقة الأخلاقية في وسائل الإعلام الجديد.

أين الرقيب الذي كان يأمر (ضمن السياسة العامة للدولة) بأن تطفئ الشاشات أضواءها مع الساعة العاشرة أو الحادية عشرة مساء، حتى يقوم الناس لأعمالهم مبكرين، أما الإعلام الجديد فقد جعل تلاميذ المدارس يأتون إلى المدرسة يترنحون في مشيتهم صباحا جوعى للنوم، وإن جلس التلميذ في الفصل فكالأبله تائه الفكر مشتت التركيز. أما مع باقي فئات المجتمع من موظفين وعمال وفلاحين فحياتهم أصبحت شماتة من عالم الديجيتال والفيس بوك. فما أجمل أيام الرقابة أيام الأسود والأبيض.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.