شعار قسم مدونات

لغتنا تلعننا

blogs - طفل يتعلم
لا يختلف اثنان على أن لغة العرب في بلاد العرب صار بها الحال كعجوز شمطاء في زمن الحسناوات، أكل الدهر عليها ولم يشرب بعد، أو كبضاعة رديئة في سوق الجودة تتعفف النفوس عن مجرد النظر إليها أو بالأحرى مساومتها، فمن الحماقة طلب وُدّ العجوز في حضرة الحِسان، ومن البلاهة اختيار الرديء عوض الرطيب.

إن الغيور على لغة العرب في بلاد العرب مدحور، والذائدَ عنها لعمري في نظرهم مسحور، حتى إن درجة العلم والكياسة أصبحت تقاس بمدى خلطك للكلمات الأجنبية في حديثك، فكلما زدت خلطا زدت ثقافة وارتقاء في درجات الابداع، ويا ويلك إن كان كلامك مجرداً؛ فقد أذنت لنفسك بالهوي في دركات التخلف .

العجب كل العجب من ذاك الذي يتقن لغة المحتل إتقانا، ويتفنن في النطق بها تفنُّناً، ذاك الذي يجد في التكلم بها فخراً لا يضاهيه فخرٌ، وعُلوّاَ لا يساويه عُلوّ، ذاك العالم بنحوِها وصرْفِها وعاملِها ومعمولِها، بل ومخارجِ حروفِها! ذَاكَ الذي إذا أرَاد التعبير في حديثه بكلمة عربية معينة، اختلّ منطِقه ووقف لسانٌه واضطرَّ لاستِخدامِ مرادفتِها باللغة الأعجمية، ذاك المطّلع على مؤلفات السابقين واللاحقين من أهلها ومصنفاتهم، لكن حينما يتعلق الأمر بلغته الأم، تُلفيه أخرسَ لا ينطق، وأبكمَ لا يتكلم، ناهيك عن أعلامِها فلا عِلمَ له عن أصلِهِم بل ولا فكرة له عن وجودِهم! أما إن مثُلت أمامه جملة من جنس أصلِه ما عرَف رأسها من عقِبها، وما ميَّز مبتدأها من خبرِها، رافعٌ لمفعولِها، وناصِبٌ -قاتله الله- لمبتدَئِها! أفمثل هذا قادر على تدبّر كتاب الله وفهمه واستيعابه!

إن الغيور على لغة العرب في بلاد العرب مدحور، والذائدَ عنها لعمري في نظرهم مسحور، حتى إن درجة العلم والكياسة أصبحت تقاس بمدى خلطك للكلمات الأجنبية في حديثك، فكلما زدت خلطا زدت ثقافة وارتقاء في درجات الابداع!

إن العولمة التي يتغنى بها وبحسناتها الجميع، قد أوسعت الفجوة بيننا وبين هويتنا، ومدّدت من خرق نسيجنا الاجتماعي، فصرنا أمة مفرطة في تركة الماضي، ساهية عن إثراء الحاضر، ومضيّعة لميراث القادم، إن الحكمة التي تقول "إن التعليم باللغات الأخرى ينقل بعض الأفراد إلى العلم، ولكن التعليم باللغة الوطنيَّة ينقل كل العلم إلى الأُمَّة" لهي حكمة من التوفيق بمكان، لا ننكر أن تعدد اللغات أمر مطلوب في وقتنا الحاضر، لكن أن يكون هذا التعدد على حساب الأصل فيعمد إلى طمسه، فهذا أمر لا يمكن القبول به، وهو ما ساعدت العولمة في استفحاله وتفاقمه، ففي هذا التسارع التكنولوجي اللامسبوق -الذي له من الأثر والتأثير الشيء الكبير- إيذانٌ بطرس ومحو ما تبقى من هذه العربية، وإعلامٌ بدحض وقطع كل ما من شأنه أن يمت بصلة بلغة الضّاد.

أتدرون ما المهين؟! المهين هو أن تُعطِّل حواسّك إرضاء لحواسّ غيرك، فلا تعود تبصر مواطن الحسن والجمال إلا بما يقِرّ عينَه، ولا تستمتع بعبير الآراج والنفحات إلا بما يزكم أنفه، ولا تطرب بسمع أعذب الأصوات والألحان إلا بما يشنّف أذنه، ولا تمس معادن الأشياء وموادّها إلا بما يهوى لمسَه، وهل يفرض المحتل في أول الأمر لغتَه إلا ابتغاء هذه الرياسة وهذه الزعامة، وما تحقق مراد التابع إلا بانبطاح المتبوع، فأصناف البلاء متعددة متنوعة، لكن أشدها على الإنسان هو إبادة تاريخه أمام عينيه وأي تاريخ أثمن من تاريخ لسانه، يراه يسحق ويمحق أمامه فلا يحرك ساكنا ولا يسكّن متحركا، ولا ريب تعلمون أن نتيجة اجتثاث ماضي الشعوب، إنما هي إيذان بحاضرٍ بائس يلازمها، ومستقبلٍ مجهول ينتظرها.

إننا وبكل صدق نعيش أزمة لغة، والمسؤولية واقعة على كاهل الكل -مربين ومعلمين ومجتمعا- فاللغة لكي ترسخ في جَنان الطفل، ينبغي أن تُصوّر على أنها اللغة الوحيدة التي ينطق بها العالم، حتى إذا كبر تولدت له القناعة بأنها حقّا لغة العالم، وصدق من قال أن المؤتمرات التي تقام دعما للغة العربية ماهي إلا بكاء على الأطلال، ولا تعدو تصوراتها إلا أن تكون مجرد حبر على ورق، فالأمة التي لا تقدس لغتها -عمليّا- أمةٌ مقلّدة متأمعة، لا ثبات لها على رأي، بل لا رأي لها من الأساس، أمّةٌ رضيت بالاندحار واستحْلَت الحياة بدون هويّة، أمة واهية تخبط خبط عشواء بدون بصيرة ولا إدراك، أمةٌُ بشخصية مهزوزة تحركها التيارات كيفما شاءت وحيثما شاءت.

لقد كان يبلغ الشك مني مبلغه في سلامة عقل ذاك العربي المثقف الذي يتحيز إلى لغة غير لغته، بل أشك حتى في كمال رجولته فهي في نظري ناقصة نقصا مهولا، لكن الآن قد اختلف الأمر، لأن شكّي أصبح يقينا ! وبلسان مَن؟ بلسان سيدنا عمر رضي الله عنه: "تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل والمروءة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.