شعار قسم مدونات

قص ولصق

blogs - قص لصق
القص واللصق هواية العرب المفضلة، تُذكرني دائماً بذلك المفلس الذي قرر استخدام برنامج الفوتوشوب الشهير لتزوير وطباعة النقود لعل ذلك أن يغنيه. نعاني إفلاساً فكرياً ولكن لا يخطر على بالنا أية حلول سوى استخدام الفوتوشوب لتزوير واستنساخ تجارب الآخرين.. تارة نقلد أهل الشرق، وتارة أهل الغرب، وطوراً نريد فيه أن نعود إلى الوراء ما يربو عن ألف سنة.. إنه فن القص واللصق الذي لم يبرع فيه أحدٌ كما برع فيه العرب. تجده في السياسة، وتأمل معي مصطلحات من قبيل: الكونفدرالية، الجمهورية، الملكية، الخلافة، الحكم المدني، الحكم العسكري، الحرية، الديموقراطية.. ألم تغدو هذه المصطلحات وغيرها أصناماً يسبح البعض بحمدها، ويضربها البعض الآخر بأحذيتهم أو ينتعلها أحذية توصله إلى المآرب وذلك حسبما تقتضيه المصالح.. 
وتبقى في النهاية كل هذه المصطلحات مجرد أدوات محايدة، تنفع إن أُحسن استخدامها في المقام المناسب، وتضر حين يحدث العكس، فالعبرة في النهاية هي بالنوايا، وأي نظام أو قانون لا يمثل حلاً، فالإنسان لا يعدم وسيلة للتحايل، فالأهم هو الرغبة الكامنة وراء القانون أو ما يسمى بروح القانون، وليس القانون ذاته.. فعلى سبيل المثال، فإن أقوى دولتين في العالم اليوم تقومان على النظام الكونفدرالي (روسيا، والولايات المتحدة) والدولة الإسلامية في عز مجدها كانت بشكل ما دولة كونفدرالية.. في الوقت نفسه فإن واحدة من أتعس دول العالم اليوم تحكم بنظام كونفدرالي (العراق)، وأخرى تسن السكاكين باسم الكونفدرالية المقدسة لتقطيع أوصالها (سوريا).

نمط الحياة لم يعد أكثر من نسخة مشوهة نحاكي فيها حياة هذا أو ذلك، أو ربما وهو الغالب أولئك.. حتى فهمنا وتعاطينا مع الدين وعلاقتنا بالله لم تسلم من القص واللصق.

القوى العظمى في العالم تتنوع في أنظمة حكمها، فأكبر قطبين في العالم يطبق فيهما النظام الجمهوري، بينما بريطانيا في عز مجدها كانت وما زالت مملكة، والدولة العثمانية التي كانت يوماً أكبر دول العالم قامت على نظام الخلافة. ممالك العرب اليوم تنعم بالرخاء، وجمهورياتهم يسودها البؤس والشقاء. الخلافة شهدت أزهى عصور العدل والرخاء حتى لم يجد الناس من يقبل الصدقة، وهي نفسها التي شهدت فظائع الحجاج وأعوام المجاعة..

المعجزات الاقتصادية الثلاث (ماليزيا وسنغافورة وتركيا) قامت على أيدي مدنيين، في حين بنيت نهضة كوريا الجنوبية، ومعجزة تشيلي الاقتصادية على يد جنرالات العسكر. سنغافورة وكوريا بناها علمانيون، وتركيا وماليزيا بنيت على يد من يحسبون على التيار الديني.

أزهى عصور الخلافة، وأقوى عصور روسيا والاتحاد السوفييتي، بل وممالك العرب الثرية اليوم، كلها قامت بلا ديموقراطية، ونهضة العم سام وخليلته أوروبا اعتمدت الديموقراطية، هذه الديموقراطية صنعت نهضة دول عدة، وهي نفسها الديموقراطية التي صنعت هتلر وموسوليني، وتكاد تفرز لنا اليوم في أوروبا وأمريكا اليمين المتطرف حاكماً.. ويطول السرد ويطول..

نظرة خاطفة أخرى على القص واللصق وهذه المرة في الاقتصاد، فنحن دائماً بين ثلاثية جوفاء كاذبة، رأسمالية متوحشة، أو اشتراكية كاذبة، أو هجين مشوه يُزعم بأنه الاقتصاد الإسلامي، يميل تارة لهذه وتارة لتلك حسب ميول المتحدثين، ويرسم زوراً وبهتاناً على أنه المثال الأوحد للاقتصاد في الإسلام.
أما في الصحافة والإعلام فحدث ولا حرج، لا جديد أبداً.. مجرد تقليد أعمى لتجارب الآخرين، تارة بقليل فائدة لا ننكره، وأغلب الوقت بتفاهة وسخافة منقطعة النظير..

متى نتوقف عن القص واللصق؟ متى نقرر أن نبتكر لأنفسنا ما يناسبنا من أنظمة وأفكار؟ متى نتوقف عن ترديد المصطلحات الجوفاء؟ أما آن للعرب أن يتحلوا بالشجاعة التي تدفعهم للتجديد وابتكار الحلول.

لقد تغلغل القص واللصق في مختلف جوانب حياتنا، تجده في التعليم، في الرياضة، وحتى طقوس حياتنا وعاداتنا اليومية لم تسلم من ذلك؛ نظامنا الاجتماعي والعائلي ونمط الحياة لم يعد أكثر من نسخة مشوهة نحاكي فيها حياة هذا أو ذلك، أو ربما وهو الغالب أولئك.. حتى فهمنا وتعاطينا مع الدين وعلاقتنا بالله لم تسلم من القص واللصق، فليس لدينا إلا صوراً نمطية، فإما أن نعيش كما عاش الصحابة رضوان الله عليهم قبل أكثر من ألف سنة، وإما أن نكفر كما كفر الشرق والغرب، أو نعيش فصاماً في ظل إسلام أميركي ليبرالي جديد يروج له البعض تحت اسم الإسلام الحداثي.. وكأنما عُدم لدينا المصدر والأساس الذي حدد لنا هذه العلاقة بين الإنسان وربه، وعرفها بوضوح تاركاً لنا حرية الاختيار، وأيضاً حرية التطبيق وفق ما تقتضيه القدرة والحاجة والظروف..

إن نتيجة كل ذلك القص واللصق هو تلك الكائنات المستفزة التي تصدع رؤوسنا ليل نهار بمختلف أنواع الشعارات؛ اقتصادية كانت أم سياسية.. أو حتى فكرية أو ثقافية أو دينية.. ثم لا تجد لتلك الشعارات أثراً في أفعالها أو تعاملاتها.. تجد هؤلاء منتشرون كالنار في الهشيم في كل تيار، فمدع الحرية والعدالة يكفر بها عند أول خلاف في وجهات النظر، ومدع التدين يلقي بالدين وراء ظهره متى ما اقتضت مصلحته ذلك، و… و …. إلخ

لقد غدا العرب اليوم مجرد تجسيد حي لما يُسمى قسرية التفكير، حيث السعي لفرض صورة نمطية ما، دون التقيد بمحتواها. فالمهم دائماً هو ديكور الصورة المزيف حتى تنال ضمائرنا نصيبها من المسكنات، أما المحتوى فالمصالح فيه هي سيدة الموقف. وديموقراطيات العرب وأكاذيب من يسمون بالإسلاميين ونظرائهم العلمانين خير شاهد على ذلك..

والسؤال الحقيقي هنا هو: متى نتوقف عن القص واللصق؟ متى نقرر أن نبتكر لأنفسنا ما يناسبنا من أنظمة وأفكار؟ متى نتوقف عن ترديد المصطلحات الجوفاء؟ أما آن للعرب أن يتحلوا بالشجاعة التي تدفعهم للتجديد وابتكار الحلول والنظم والفلسفات الي تناسبهم بدلاً من التقليد الأعمى؛ لا مانع بالتأكيد من الاستفادة من تجارب الآخرين، ولا ضرورة أو مبرر للتنكر لماضينا وثقفاتنا وهويتنا وديننا.. فكل ما هنالك أننا بحاجة لأن نستوعب أن العمل والانتاج والابتكار والإبداع لا يغني عنهم استخدام الفوتوشوب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.