شعار قسم مدونات

في خضم العاصفة

blogs - مكتبة
يعلو الموج كثيرا حول السفينة حتى يكاد أن يفتك بها ويغرقها، إلا أن سنن الله الكونية المتمثلة في قانون الطفو كما صاغه أرشميدس اليوناني يبقيها طافية فوق صفحة الماء التي اضطربت بسبب تكاثره فيتعالى بعضه فوق بعض، تتكاثف السحب أيضا في السماء وتأبى إلا أن تطبق الليل من أعلى والموج يطبق الليل من كل جانب حول السفينة فلا تكاد السفينة ترى أي نور من حولها ولا من فوقها وودعت النجوم سواريها وحانت العاصفة.

تلك هي صورة مجتمعنا العربي ومن ينادون بأنه قد كانت ها هنا حضارة عربية إسلامية وتركت لنا ذخائر من التراث العربي الذي سيطر على العالم أجمع وأصبح من لوازم عقل الإنسانية ليس العرب فقط، ولما كان ذلك وصعدت البشرية بحضارتها وتقدمها على حضارة العرب تنكرت للحضارة العربية الإسلامية نعم الإسلامية وإن كانت هذه الكلمة تثير الأرتيكاريا في نفوس البعض والتوجس في بعض النفوس الخبيثة التي لا تجيد إلا أن تنزع جلدها وأن تلبس ثوبا ليس لها.

التجديد في التراث واجب، ولكن ليس بإنكاره ولكن بتقليب ما نسي منه وما لم يعرفه الكثير من الناس ليعيدوه إلى السطح، ويقدمونه لهم بلغة عصرهم.

نقصد به هنا ثوب الغرب الحانق على العرب ولا يريد أن تقوم لهم قائمة وذلك هو رد الجميل للحضارة العربية الإسلامية بعد أن أنقذتهم من عصور الظلام التي عاشوها، ولكن الأمور ليست كما نظن فما تكاثر حول سفينة حضارتنا العربية الإسلامية الظلام وأهلها العاضين على تراثها بالنواجز إلا بموج مظلم من جهالها وسحاب مطبق من الغرب المستفيد من إضعافهم وإبعادهم مسار تقدم الأمم أو لنقل للحقد التاريخي الدفين لهم فهم يقتلونك ولكن ليس بأيديهم ولكن بيدك أنت من منافقيك وجهالك.

إن حديث السفينة الذي ذكره البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم،  يضرب لنا مثل جماعتين من الناس قوم في أعلى السفينة وقوم آخرون في أسفلها، الذين في أسفلها تأذوا من كثرة صعودهم لأعلى طلبا لسقيا الماء وضيق من هم في أعلى السفينة منهم ولذلك قرروا أن يخرقوها ليدخل الماء من أسفل فيشربوا ويرتووا ولو هم فعلوا ذلك لدخل الماء من أسفل السفينة فأغرقهم هم وساكني أعلى السفينة، سيهلكون جميعا حقا؟

نعم سيهلكون جميعا والذين في أعلى السفينة سيتحملون نتيجة وجريرة جهالة وسفه من هم في أسفل السفينة بغفلتهم عنهم وعدم احتمالهم إياهم وتأذيهم منهم. فهؤلاء قومنا يريدون تجديد تراثنا الديني ولكن هل سألوا أنفسهم ما هو التراث الذي يريدون أن يجددوه؟ الحقيقة أنهم لو كانوا يعرفونه وتدارسوا علومه ما قالوا مثل قولتهم تلك فهم بجهلهم بهم يظنون أنه العلة وذلك الخرق هو من سيغرق جميع من في السفينة، فسيصبح العرب مسوخ بدون هويتهم وتراثهم هذا، فإنهم يريدوا أن ينتزعوه انتزاعا ويحلوا محله العقل الغربي مع أنه لا يتناسب مع المكون الفكري والثقافي العربي وكونه لسان غير لسانهم، كالمريض أراد أن يعالج نفسه فانتزع أصح ما فيه فرماه وهو بجهله لم يدر أنه ألقى قلبه النابض وهو يظن أنه انتزع المرض.

إن السكوت العاجز للعلماء وابتعادهم عن تحذير الناس من الجهلة وتركهم مجالات الإعلام لهم ليخوضوا بما لا يفقهوا من العلوم الأصيلة هو المتسبب فيما نحن فيه اليوم، فالتجديد في التراث واجب ولكن ليس بإنكاره ولكن بتقليب ما نسي منه وما لم يعرفه الكثير من الناس ليعيدوه إلى السطح ويقدموه إلى الناس ويقدموه لهم بلغة عصرهم فلكل عصر لغة وأسلوب مستوعب لعقل العصر والعيب ليس في علومنا ولكن العيب في أن يضن أهلها بها وبتقديمها بطريقة تلقى قبول عصرها التي هي لم تجاوز أعتابه، فقليلا ما تجد من المحرررات المكتوبة بلغة العصر في كثير من العلوم الشرعية واللغوية التي تقدم بطريقة يفهمها العامة الآن فالعيب كل العيب ليس في التراث بل في أهله ممن عجز عن مواكبة عصره ومعرفة عقل عصره ليخرجه له بصورته.

سيصبح العرب مسوخا بدون هويتهم وتراثهم هذا، فإنهم يريدون أن ينتزعوه انتزاعا ويحلوا محله العقل الغربي مع أنه لا يتناسب مع المكون الفكري والثقافي العربي وكونه لسانا غير لسانهم.

أما من يدعون لاستئصال التراث فلا هم يعرفون ما هو التراث وما هي مصادره الموثوقة ولا يفصح أحدهم على أي نموذج يريدون ولا هم متفقون على نموذج يأخذوا الناس إليه بدعواهم تلك، فما اتفقوا إلا على الهدم وما أسهله وما اختلفوا إلا في البناء والجد من الأمر، ومن المعلوم أن كل مجدد لا يهدم معتقدات غيره ولا النماذج السابقة بل يطرح نموذجه حتى إذا لقى قبولا تم البناء على أساسه والإبقاء على ما يعضده، ومنذ الحملة الفرنسية حتى الآن لم يقدم أحد بين أيدينا نموذجا تم الاتفاق عليه من خارج التراث العربي الإسلامي.

فيا قومنا اصرخوا في وجوههم ليفيقوا من غفلتهم ولتستبينوا نواياهم ويا أيها العلماء خذوا على أيديهم وعلموهم فلا يهلك المرء من علم ولكن يهلكه الجهل، التراب قد ران على الكتب بما بذل فيه الأجداد الليالي ونحن نضن أن نطلعهم عليه بما يعقلون، وينهي الحبيب صلى الله عليه وسلم حديثه فيقول فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا، فأجيبوا داعيا بالحق المبين كان يبصر، قبل أن تغرق السفينة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.