شعار قسم مدونات

فارق اللحظات

blogs - صلاة
في السنة الثامنة من الهجرة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم جيشا إلى الروم قوامه ثلاثة آلاف مقاتل وعقد الراية لثلاثة منهم وجعل إمرتهم بالتناوب، فقال صلى الله عليه وسلم: إن أصيب زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة، وقعت المعركة بين المسلمين والروم على أرض مؤتة والتي سميت المعركة باسمها وهي اليوم تسمى بالكرك.

قال ابن إسحاق ولما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيدا قال ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار وظنوا أنه قد كان في عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون ثم قال ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا ثم قال لقد رفعوا إلى الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه فقلت عم هذا فقيل لي مضيا وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى.

ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم يوما على أصحابه ويحدثهم عن أتباع الأنبياء الذين يأتون معهم يوم القيامة ومنهم أتباعه الذين يأتون يسدون الأفق ومعهم سبعون ألفاً قُدَّامهم يدخلون الجنة بغير حساب، ويذكر بأنهم هم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون". فيقوم عكاشة بن محصن فيقول: ادع الله أن يجعلني منهم؟ قال: "اللهم اجعله منهم". فيقوم مباشرة رجل آخر فيقول: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: سبقك بها عكاشة .والحديث في الصحيحين.

فارق اللحظات دقيق عند الله بما لا ينتبه له إلا العارفون الذين اصطفاهم الله تؤثر فيه السجدة والدمعة والخاطرة تعظمه النية وتنقصه الغفلة ويؤخره التردد والتواني.

ويحدث أبو هريرة رضي الله عنه فيقول: وَإِنِّي شَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا وَهُوَ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ : مَنْ يَبْسُطُ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي ثُمَّ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ فَلا يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي فَبَسَطْتُ بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيَّ حَتَّى إِذَا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ قَبَضَّتُهَا إِلَيَّ فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدُ سَمِعْتُهُ مِنْهُ قَالَ سُفْيَانُ : قَالَ الْمَسْعُودِيُّ : وَقَامَ آخَرُ فَبَسَطَ رِدَاءَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَبَقَكَ بِهَا الْغُلامُ الدَّوْسِيُّ. 

في هذه القصص الثلاث أمر في غاية الدقة والعجب فبين تأخر سرير عبدالله بن رواحة رضي الله عنه في الجنة وتقدم سريري صاحبيه تردد لحظات فقط أنزلته منزلة دون منزلتي صاحبيه وبين دخول عكاشة بن محصن رضي الله عنه الجنة بغير حساب وبين التعرض للحساب لحظة واحدة هي لحظة مبادرة عكاشة بالسؤال وتأخر صاحبه لحظة.

وبين أن ينال أبو هريرة شرف نيل وسام حافظ ومحدث الأمة بما نقله من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بدقة ودون نسيان وبين أن لا ينال ذلك الشرف من تأخر ممن كان معه في نفس المجلس هي لحظة بسط أبو هريرة رداءه، إنها موازين الله تفرق فيها اللحظة والثانية والنفس والخاطرة.

إنه ميزان الله الدقيق الذي لا يفوت لحظة ولا يضيع ثانية ولا يخفي مثقال ذرة (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ) 47 الأنبياء
فارق اللحظات دقيق عند الله بما لا ينتبه له إلا العارفون الذين اصطفاهم الله تؤثر فيه السجدة والدمعة والخاطرة تعظمه النية وتنقصه الغفلة ويؤخره التردد والتواني وتضعفه الهمة وتفسده سوء النية. فارق اللحظات تسبق فيه أرواح إلى الجنة بآلاف السنين بينما عاشت في الدنيا في زمن واحد مع أخرى تؤخر آلاف السنين.

فارق اللحظات ترفع أناس في الجنة في الغرفات وآخرين دونهم يرونهم كما يرون الكوكب الغابر. يخرج الأصيرم عمرو بن ثابت الخزرجي من المدينة يوم غزوة أحد ولم يكن قد أسلم فيسلم ثم يدخل المعركة مع المسلمين فما يلبث أن يقتله المشركون فيموت شهيدا ويشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ولم يسجد لله سجدة والفارق بين دخوله في الإسلام وبين موته واستشهاده وقت يسير وربما لحظات هذه اللحظات أنقذته من الخلود في النار إلى حياة الخلود في أعالي الجنان.

فارق اللحظات تؤثر فيها أعمال القلوب أشد ما يكون فربما تتفاوت الأجور في كل عمل حسب محتوى القلوب ففي الصلاة: قد يصلي الرجلان في صف واحد وبين ثوابهما كما بين السماء والأرض وقد ينفق اثنان مبلغًا واحدًا فينال أحدهما عشرة أجور بينما الآخر ينال سبعمائة أجر أو أكثر. وقد يدرك قلبان ليلة القدر فيتضاعف أجر أحدهما عن الآخر أضعافًا مضاعفة، فارق اللحظات تبني فيها قصورا في الجنة أو تكتب فيها من الذاكرين أو تمحى من زمرة الغافلين أو تكتب في سجل المتقدمين..

تأتي يوم الجمعة قبل دخول الإمام فتكتبك الملائكة في سجل المبكرين وربما يدخل آخر بعدك بلحظات ولكن بعد دخول الإمام فلا يكتب اسمه وتطوى عنه السجلات والفارق بينكما لحظات، تقوم الليل بعشر آيات فلا تكتب من الغافلين وينام آخر دون صلاة فيكتب من الغافلين والفارق لحظات. تمر في الطريق ويمر غيرك فتجد ما يؤذي الناس في الطريق فتزيله أو تنحيه فتكتب لك أجور لا تعلمها ويحرمها غيرك
تلقى الناس فتبتسم في وجوههم تكتب لك صدقة في لحظات.

قد ينفق اثنان مبلغًا واحدًا فينال أحدهما عشرة أجور بينما الآخر ينال سبعمائة أجر أو أكثر. وقد يدرك قلبان ليلة القدر فيتضاعف أجر أحدهما عن الآخر أضعافًا مضاعفة.

والجنة غراسها ذكر لا يتعدى لحظات، وهكذا الحياة فرص وأيسرها الفرص مع الله التي تفرق فيها اللحظة ويؤثر فيها مجرد تحريك اللسان بتسبيحة أو تحميدة أوتهليلة أو تكبيرة وتعظمها المبادرة والمسارعة وإخلاص النية، والفرص مع الله مضمونة النتائج عظيمة الربح ليس فيها مخاطرة ولا مجازفة فوعده لا يخلف وفضله لا يوصف. 

الدرجات عند الله متفاوتة بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض بمسيرة خمسمائة عام تفرق بين الدرجة والدرجة قراءة آية أو دمعة من خشية الله أو دعوة من قلب خاشع ونفس خاضعة منكسرة أو تفكر من عقل موقن أو كلمة طيبة أو معروف مبذول للخلق.

والميزان عند الله دقيق لا يخضع للمحاباة ولا يقبل المجاملة ولا تنفع معه الواسطة ولا يشفع عنده إلا بإذنه ولمن ارتضى ولمن أذن له واتخذ عند الرحمن عهدا، وكل الناس سائر إلى الله ويتمنى على الله الأماني ولكن المغتنمون لفضل الله قلة وهم درجات عند الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.