شعار قسم مدونات

الموت حباً بين الحقيقة والمجاز

blogs- الحب

في محراب العشق تتلى ترانيم الحب على مر العصور ويُخلد التاريخ أسماء رفعت رايات العشق، فيراودنا في أحايين كثيرة هذا السؤال لماذا تخلد قصص العشق بعد أن يكتب الفراق المشهد الأخير في فصول القصة؟ وهل ينقص الحب بالاكتمال؟ وهل يبلغ أوجه في حالة الحرمان وهل المعاناة هي حبر العاشق المتدفق، وهل تحول النهايات السعيدة دون تخليد العشاق في ذاكرة الأدب؟

لا أحد يصارع الحب حتى أنفاسه الأخيرة فلا تصدقي كالحمقاوات تلك الأسطورة التي تقر بالموت حباً فوحدهم المجانين يموتون مجازا ليدفنوا في مقابر الحزن ويخلدوا في سماء الأدب بينما هم يمضون في الحقيقة نحو أقدارهم بهدوء، هكذا كنت أهمس لنفسي قبل أن أبحر في عالم الأدب، فأيقنت بعدها أن العشق الأسطوري يخرج من رحم المعاناة وأن أجمل الأشعار هي تلك التي كتبت بحبر اليأس ليزخر الأدب بعصارة من إبداعات وزخات تلك الأقلام التي ألهمها الألم.

ففي الأدب الصومالي نجد بأن أسطورة الحب "علمي بودري" هو أول من مات عشقاً، حيث لم يكن المجتمع مهيئاً بعد لاستيعاب فكرة الموت حباً فخالوا بأن ما اعتراه هو ضرب من ضروب المس أو السحر أو الجنون، وقد حدثت وقائع تلك القصة في ربوع مدينة بربرة الساحلية "والتي قد ذكرها ابن خلدون في مقدمته و امرؤ القيس في شعره والإدريسي في خريطته والعثمانيون والإنجليز في كتاباتهم وعشق علمي بين جنباتها محبوبته" كما وصفها الكاتب عواله سعيد، حيث ألتقى هناك بحبيبته "هودن" والتي ذهبت لتبتاع منه الخبز فوقف مشدوها أمام جمالها، وانبثقت حينها شرارة الحب الأولى في قلبه، ولكن سُفن الأقدار رست في موانئ غير تلك التي أرادها، وذلك حينما أقدم أهلها على تزويجها من رجل آخر، ليتخبط هو بدوره في أروقة التيه والعشق وحيداً وليقضي نحبه حباً.

 

قطعاً وحدهم المجانين يتسكعون في طرق المستحيل أملا في العثور على بصيص أمل قد يجمعهم بمن يحبون فيستحيل أملهم ألما، ووحده المستحيل يخلد الحب، فماذا لو أجتمع علمي بودري بمحبوبته وظفر قيس بن الملوح بليلاه، هل كانوا سيشعرون بلذة الاستحالة

ولكنه قد بنى له في الأدب صروحاً وضوى للعاشقين طريقاً مظلماً كان يتوجس منه الآخرون خيفة! فقيراً ولكنه في العشق شيد قصوراً من المعاني التي كتبت بماء الذهب وخلد اسم محبوبته في ذاكره العشق، وكان كالفارس المغوار يجوب في حمى المألوف ليحارب الجمود ويجاهر بالحب، حتى لاحت سُحب العين بارقة وسكب الأدمع بعدما بلغ الحب منتهاه، فقالوا له: أتبكي وهل يبكي الرجال حباً؟ وأتعب الحنين إليها قلبه الدامي حتى نسج في مدن الأحزان شعراً، ولما تزينت له النساء أملاً في انتشاله من بؤرة الحب السحيقة قال لهم: غطوا مفاتنكم إني لا أملك هذا القلب فوصفت أبياته لوعة القلب العليل، وأنهك الحب قواه حتى صار جسده نحيلا، فأخذته المنايا وهو يردد إذا متَ فالموت أحياناً أفضل من الحياة بعيداً عن من تحب، وتلتقي قصته مع قصة قيس بن الملوح الذي هام في عشق ليلاه وعرضت عليه أجمل النساء ولكنه رفض ذلك وتمسك بحبه حتى بعد أن تزوجت ليلى، ورغم علمه بأن حبه محاط بسياج من الاستحالة، ولكنه أحبها حتى جنُ فأي لذة تورثها الاستحالة في قلوب العاشقين؟ 

فقطعاً وحدهم المجانين يتسكعون في طرق المستحيل أملا في العثور على بصيص أمل قد يجمعهم بمن يحبون فيستحيل أملهم ألما، ووحده المستحيل يخلد الحب، فماذا لو أجتمع علمي بودري بمحبوبته وظفر قيس بن الملوح بليلاه، هل كانوا سيشعرون بلذة الاستحالة هل كانوا سيسهرون حتى يطل القمر ليلاً ليلقى على العاشقين السلام، هل كانوا سيكتبون تحت ضوء الشموع أجمل قصائد الحب، هل كانوا سينزفون حباً، وهل كانوا سيجدون ملهماً كالمستحيل الذي حال بينهم وبين من يحبون، فخامل هو الإحساس بالفرح فلا يثير حواسنا وحده الحزن يوسع مداركنا ويخلد آلامنا وفي حضرته تصبح جميع قصص الحب متشابهة حينما يصهرها معا،ً ليدخل أصحابها بوابة الخلود، فللحب المستحيل لا شك سكرة تغيب العقول ولكن ليتها تدوم، ويعبر الكاتب مصطفى محمود عن تلك الفكرة بقوله:

"ولو أن مجنون ليلى حصل على محبوبته ليلى وتزوجها وتحقق له ما كان يحلم به لأفاق من جنونه تماماً ولعاد له عقله من أول لكمة في الفراش من ليلاه العزيزة وهي تقول له: ابنك عنده اسهال، وبنتك تقيء طول الليل، وأنا طهقت روح شوف أمك تشيل عني العلل دي، أنا قرفت منك ومن ولادك، قطعاً كانت جميع الرؤى الشعرية والأطياف الملائكية ستتبخر من دماغه ويلعن اليوم الذي نظم فيه قصيدة أو كتب موالاً، ولربما قام وهو يبرطم ويسب وجلس على باب الخيمة، وأنشد قصيدة يلعن فيها القمر والشجر، ولكن الله لم يبلغه مراده لأنه أراد أن يكون للوهم ملوك يفتنون الناس، كما أراد أن يكون للحقيقة ملوك يوقظون الناس، ليجري امتحان النفوس في عدالة بين شد وجذب الفريقين".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.