بوفاة الدكتور الترابي رحمة الله تكون الحركة الإسلامية السودانية قد دخلت مرحله جديدة من مراحلها المتغيرة على مر الزمان، الوفاة أدخلت الحركة الإسلامية وحزب المؤتمر الشعبي في مرحلة انعدام وزن وأسلمته إلى أعمال غير مكتملة كان قد بدأها الترابي وحده ولم يكتب لها الاكتمال حتى وفاته.
الحزب الأن منتظر في مرحلة الحوار الوطني ينتظر الوفاء بها من رئيس الجمهورية، المتابعين للأحداث ولردة الفعل الشعبي علي المتغيرات من حوله يصل إلى نتيجة مفادها أن الحزب وقيادته قد رمت بكل أوراقها في سلة الحوار في انتظار المرحلة المقبلة من المشروع الخالف الذي بشر به الترابي قبل وفاته، وفي الطريق لقطف ثمار الاتفاق الذي لابد وأنه قد حدث بين الشيخ والمشير فإن الحزب اختار طواعية أن يسد أذنيه عن التحركات الأخيرة التي أشعلت شرارتها حادثة جامعة الخرطوم قبل عامين وحاولت الاستفادة منها أحزاب بعضها مشارك في اجتماع الحوار الوطني وبعضها أعلن رفضه لتلك الفعالية باعتبارها محاولة لمد عمر النظام المتهالك.
وفقا للراهن السياسي فان محاولة إسقاط الحكومة الحالية عبر هبة أو انتفاضة شعبية يبدو بعيد المنال في هذه اللحظات، فعملية الانتفاضة الشعبية هي عملية بناء تراكمي طويلة وضبط تنظيمي غير متوفر الأن للساعين لإسقاط الحكومة |
ردت الحكومة على تلك المظاهرات بحملة اعتقالات وبتحريك الوحدات والقطع الأمنية إلى الشارع للتصدي لمحاولة نقل الاحتجاجات من محيط الجامعات إلى قلب الشارع.. أصم قادة الشعبي أذانهم عن تلك الاحتجاجات واكتفوا بزيارة الأمين العام المكلف إلى عزاء أحد قتلي الاحتجاجات وإلى متفرقات من الآراء غير الرسمية التي نشرت من عضوية الحزب المشهورة على الوسائل المختلفة.
وفقا للراهن السياسي فان محاولة إسقاط الحكومة الحالية عبر هبة أو انتفاضة شعبية يبدو بعيد المنال في هذه اللحظات، فعملية الانتفاضة الشعبية هي عملية بناء تراكمي طويلة وضبط تنظيمي غير متوفر الأن للساعين لإسقاط الحكومة، الشعب منشغل عن كل هذه الاحتجاجات ولا ينظر إليها باعتبارها حدثا رئيسا سيسقط النظام، هو لا يثق في البداية بالأحزاب التي تريد أن تجعل نفسها بديلا للإنقاذ الحالية، ولم يطلع لغاية الأن علي مشروع وطني مقنع ينهض بالبلاد بعد الإنقاذ ويجنبها الوقوع في مستنقع الفوضى الذي سقطت فيه دول أكثر من السودان استقرارا وأفضل منه تماسكا اجتماعيا.
ومنذ سنين عندما قتلت الحكومة العشرات من المحتجين في الشوارع ظن البعض أن تلك قد تكون نقطة يخرج فيها الشعب السوداني إلى الشوارع انفعالا ورفضا لقتل الطلاب والمتظاهرين، لكن الشعب لم يحرك ساكنا أيضا، اكتفت قطاعات كبيرة من الشعب السوداني بالمتابعة فقط دون التقدم وبشكل إيجابي لمساندة الثورة وحماية المتظاهرين.. كانت تلك خيبة كبري للبعض الذي أيقن أن الإنقاذ هذه المرة زائله لا محالة بل وذهبت الظنون بالبعض حدا جعلتهم يحلمون بتوزيع المقاعد الوزارية وبدؤا بالفعل في استبعاد بعض المغضوب عليهم من اجتماعات التنسيق توطئة لإبعادهم مستقبلا من أية تشكيل قادم.
الخيار الذي كان مجربا من قبل هو أن ينقلب الجيش علي الحكومة إذا ما رأى الدماء تسيل في الشوارع وقد فعل ذلك من قبل في 1985 عندما سقط طالب واحد وخرجت الجماهير للشارع، فرفض أن يطلق الرصاص الحي وتدخل بشكل حاسم واستلم قيادة البلاد. المتغيرات التي مرت بها الإنقاذ والتحديات التي تجاوزتها أبانت وبوضوح أن الأليات التي كانت تؤدي سابقا لإسقاط نظم الحكم في السودان غير فعالة هذه المرة.
الجماهير لم تخرج أبدا في الشوارع بالأعداد التي يتوقع معها أن يستجيب النظام الحاكم فيقبل حقيقة هزيمته وينهار ويسلم قيادة البلاد للمعارضة.. ولم تعد الأحداث التي تحرك الجماهير قديما تنفع في استثارة الناس هذه المرة، زيادة الأسعار وندرة السلع الأساسية مثل الوقود والغاز والمستهلكات الغذائية، وحوادث القتل التي تكررت أكثر من مرة في حق الطلاب والناشطين السياسيين وحتي في حق المواطنين العزل، كل هذه الأحداث كانت تمر سريعا علي الشعب السوداني دون أن يتوقف عندها ويغضب ويخرج الشارع في مقاومة النظام، لم يعد مقتل طالب هو مقتل أمه، وإنما هو مقتل طالب (أخر) ضمن قائمة طويلة من الطلاب الذين قتلوا قبله وسيقتلون بعده والذين سيتقبل الشعب نبأ مقتلهم كما يستقبل أنباء القتل الأخرى.
ولم يعد هناك أدني احتمال أن تنقلب المؤسسة العسكرية التي يديرها البشير علي نفسها، هذا كان راجحا في نهاية التسعينات بعد المفاصلة الشهيرة بين الإسلاميين، لكن الطرف المفاصل أعلن منذ اللحظة الأولي أنه قد فارق إلى غير رجعة طريقة الانقلاب العسكري، ومع ذلك كان بإمكان بعض المتفلتين من خط التنظيم الوليد محاولة إحداث بعض الأثر من أجل تغيير موازين القوة لكن الطرف الذي تمسك بالسلطة أعمل كل وسعه في (تطهير) المؤسسة العسكرية من كل موال للترابي وألقي به خارج منطقة التأثير، ولاحقا فإن الحكومة لم تتورع مطلقا في الاستغناء عن قائد الجهاز الأمني لديها الذي اشتهر بالقسوة ووسع الحيلة، ألقت به وبغيره في السجن وأخرجته من الخدمة العسكرية وأبقت علي حياته ومن معه في إطار اتفاق راعي الظروف المحلية والدولية ولم تسمح له مطلقا بإدارة أي فعل سياسي مؤثر واحتفظت به قريبا تحت المراقبة والنظر.
الذين خرجوا مغاضبين لحكومة المركز شعروا أن الظلم المتوارث منذ عقود على مناطقهم وأهلهم في أطراف البلاد قد امتد واستشعروا عدم الرغبة من المركز في معاجلة المظالم المتطاولة الواقعة على مناطقهم طوال عقود |
بعد بضع سنين فقط من الأزمة الشهيرة اندلعت الحرب في الشريط الحدودي غرب البلاد بقيادة أسماء من خالص الملتزمين بصف الحركة ومن الذين خاضوا فترات الحرب الطويلة في جنوب البلاد وتقلد بعضهم عددا من المناصب الدستورية في الدولة، هذه الحرب المؤلمة أورثت السودان وضعا بالغ التعقيد والهشاشة على مستوي لحمته الاجتماعية وثوابته الوطنية.
الذين خرجوا مغاضبين لحكومة المركز شعروا أن الظلم المتوارث منذ عقود على مناطقهم وأهلهم في أطراف البلاد قد امتد واستشعروا عدم الرغبة من المركز في معاجلة المظالم المتطاولة الواقعة على مناطقهم طوال عقود، فخرجوا حربا على الحكومة المركزية بدعم من بعض دول الجوار المعادية للخرطوم. واتهم المؤتمر الشعبي بأنه هو من حرض هؤلاء على الخروج والتمرد وخاصة أن غالبية القادة كانوا من المقربين للترابي، اتخذت تلك زريعة أخري فأغلقت دور المؤتمر الشعبي وتم مصادرة ممتلكاته واعتقال غالب قيادته من الصف الأول.
علي صعيد أخر فإن العالم الأن ليس مستعدا لخوض تجربة أخري مثل التي يخوضها في ليبيا علي الأرض السودانية وخاصة مع التهديد المستمر الذي تمثله داعش والتنظيمات الموالية لها، الاحتمالات تظل قائمة وبصورة كبيرة أنه في حال تفكك الدولة السودانية دون تدرج وتخطيط فإن البديل سيكون أمراء حرب علي الطريقة الأفغانية وخاصة في المناطق المتوترة على أطراف البلاد، ولذلك وفي ظل التعاون الذي تقدمه الحكومة الحالية واستعدادها لتقديم المزيد في ظل الضغوطات والتهديد المستمر لرأس الدولة وبعض أعوانه الكبار بملف المحكمة الدولية وقضية محاولة اغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك. فليس من المتوقع أن تدعم القوي الدولية أي بديل أخر غير الإنقاذ الحالية وفقا لحسابات المصلحة والمخاطر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.