في كتابِ الله عز وجل عشراتُ الآيات في فضلِ الجهاد في سبيل الله عز وجل، حتى أنَّ عائشة رضي الله عنها لمَّا قرأتْ كتاب الله بتدبرٍ انتبهت لذلك؛ فقالتْ: يا رسول الله! نرى الجهادَ أفضلَ العملِ؛ أفلا نجاهدُ؟ قال: "لا، لكِنَّ (وفي رواية: لَكُنَّ) أفضلَ الجهادِ حجٌّ مبرورٌ" أخرجه البخاري.
لقد ضلَّ كثيرٌ من المسلمين في هذا العصرِ في حين قصروا الجهاد في سبيل الله تعالى على جهادِ السيف، ألم يقرأ هؤلاء قولَ ربِّنا سبحانه: "فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا" الفرقان: 52. عن ابن عباس رضي الله عنهما: "وَجَاهِدْهُمْ بِهِ" قال: بالقُرآنِ. قال الإمام القرطبي رحمه الله: "وَجَاهِدْهُمْ بِهِ" قال ابن عباس: بالقرآن. وقال ابن زيد: بالإسلام. وقيل: بالسيف، وهذا فيه بُعدٌ؛ لأنَّ السورةَ مكيَّةً، نزلت قبلَ الأمرِ بالقتالِ. وقال ابن القيم رحمه الله يقول: هذا جهادٌ لهم بالقرآنِ، وهو أكبرُ الجهادَين.
جهاد من ينتسبون إلى الإسلام ويطعنون فيه في خفاء، ويلبسون على عامة المسلمين دينهم؛ لهو من أعظم الجهاد في سبيل الله. |
إنَّ الجهاد بالكلمةِ من أعظمِ أنواعِ الجهادِ في سبيل الله، فلقد صحَّ عن طارق بن شهابٍ – وله رؤيةٌ، أنَّ رجلا سألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقد وضعَ رجلَه في الغْرزِ: أيُّ الجهادِ أفضلُ؟ قال: "كلمةُ حقٍّ عند سلطانٍ جائرٍ". أخرجه أحمد بإسناد صحيح.
إنك لو نظرت في حياة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام لرأيت عددًا كبيرًا منهم لم يحاربْ؛ إنَّ إبراهيم الخليل عليه السلام لم يحارب قومَه بالسيف ولم يقاتلهم أبدًا، فهل تراه لم يكن من المجاهدين؟ وقُلْ مثلَ هذا في نوحٍ، وعيسى، ولوطٍ، وشعيبٍ، ويحيى عليهم السلام، لم يحاربْ أحدٌ منهم قومَه، فهل تجترئ على القولِ: إنَّهم عليهم السلام لم يكونوا مجاهدين؟! لا والله، لقد كانوا شيوخَ المجاهدين وقادَتهم وقدوتَهم، لقد جاهدوا أعظمَ الجهادِ، وصدعوا بكلمة الحقِّ في وجه الطُّغاة المتجبرين، ونشروا دينَ الله عزَّ وجلَّ في الخافقين، وصبَروا على أذى العُتاة المجرمين.
من جميل ما استدلَّ به العلماء على أنَّ الجهادَ لا يكون بالسَّيف فحسب قولُه تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ" التوبة: 7. قال ابن القيم رحمه الله: لم يكنِ المنافقون يقاتلون المسلمينَ، بل كانوا معهم في الظَّاهرِ، وربَّما كانوا يقاتلون عدوَّهم معهم، ومعَ هذا قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ"، ومعلوم أنَّ جهادَ المنافقين بالحجَّةِ والقرآنِ. والمقصودُ أنَّ "سبيلَ الله" هي: الجهادُ، وطلبُ العلمِ، ودعوةُ الخلقِ به إلى الله. ولهذا قال معاذ -رضى الله عنه-: عليكم بطلبِ العلمِ؛ فإنَّ تعلُّمَه لله خشيةٌ، ومدارستَه عبادةٌ، ومذاكرتَه تسبيحٌ، والبحثَ عنه جهادٌ.
ألم تقرأ قول الله تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ" التوبة: 20. وتأمَّل في كلام ربِّنا لقد قدم الجهاد بالمالِ على الجهاد بالنفس، إنَّ الذي يسخر أموالَه لنشر دعوة الله عز وجل في ربوع المعمورة داخلٌ في المجاهدين في سبيل بأموالهم، وأي جهاد أعظم من ذلك؟ إن جهاد من ينتسبون إلى الإسلام ويطعنون فيه في خفاء، ويلبسون على عامة المسلمين دينهم؛ لهو من أعظم الجهاد في سبيل الله. إن جهاد الكافرين الذين يقذفون بشبهاتهم على الإسلام يريدون هدمَه بكل سبيل ممكن، ويدسون في دين الله سمومهم؛ لهو من أعظم الجهاد في سبيل الله.
هل خطر ببالك يومًا أنَّ برَّك بوالديك من الجهادِ في سبيل الله عزَّ وجلَّ؟ ألا تعلم أنَّ استيقاظَك من نومك لصلاة الفجرِ في المسجد من الجهادِ في سبيل الله عزَّ وجلَّ؟ |
كان ابن القيم رحمه الله يقول: إنَّ تبليغَ سنَّتِه -صلى الله عليه وسلم- إلى الأمَّةِ أفضلُ من تبليغِ السِّهامِ إلى نحورِ العدوِّ؛ لأنَّ ذلك التبليغَ يفعلُه كثيرٌ من النَّاسِ، وأمَّا تبليغُ السُّننِ فلا تقومُ به إلا ورَثةُ الأنبياءِ وخلفاؤهم في أمَمِهم.
بل إنَّ من أعظم الجهاد في سبيل الله جهادُ النفسِ على طاعة الله عز وجل، ولا يظنَّ من لم يستطعْ مقاومةَ شهوتِه ولذَّتِه أنَّ في استطاعتِه أن يُجاهدَ أعداءَ الله بالسيف. صحَّ عن فَضالةَ بنِ عُبَيدٍ -رضي الله عنه- قالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المُجاهدُ من جاهدَ نفسَه في سبيلِ الله عزَّ وجلَّ". أخرجه أحمد بإسناد حسن. قال عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فاستأذنَه في الجهادِ، فقال: "أحيٌّ والداك؟ " قالَ: نعم، قالَ: "ففيهِما فجاهِد". أخرجه الشيخان.
هل خطر ببالك يومًا أنَّ برَّك بوالديك من الجهادِ في سبيل الله عزَّ وجلَّ؟ ألا تعلم أنَّ استيقاظَك من نومك لصلاة الفجرِ في المسجد من الجهادِ في سبيل الله عزَّ وجلَّ؟ ولا يعني كلامنا هذا إبطال الجهاد في سبيل الله عز وجل بالسيف، وإنما أردنا بيان أنَّ هذا أحدُ أنواع الجهاد في سبيلِ الله، وأنَّ مفهومَ الجهادِ في الإسلامِ أشملُ من هذا، فالجهاد في الإسلام لا يكون بالنفس فحسب، بل يكون بالنفس والقلب واللسان والمال والله الموفق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.