لكن المتابع لشعارات الحراك الجنوبي يلاحظ فقدانا واضحا للهوية، هوية الوطن والانتماء. يقول أعظم شعراء العرب امرؤ القيس الكندي الحضرمي: "تطاول الليل علينا دمون.. دمون انّا معشر يمانون، ويقول الشاعر الجاهلي الكبير عبد يغوث الحارثي: أبا كرب والأيهمين كليهما.. وقيسا بأعلى حضرموت اليمانيا".
لماذا لم يتبنَ الحراك اسم "اليمن الجنوبي" مثلا، أو جمهورية اليمن الديمقراطية التي أعلنها علي سالم البيض إبان حرب 1994م؟ لقد حافظ جنوب السودان الذي انفصل عن السودان على اسم "السودان" بالرغم من أنه اسم عربي. |
وإذا ما تأملنا البيتين السابقين فمن البديهي أن يفرض سؤالٌ نفسه مفاده" لماذا يحول مسؤولو الحراك الجنوبي في جنوب اليمن التنصل من كلمة "اليمن"؟، وها هو شاعر حضرموت الكبير يفتخر بيمنيته، هل علموا معنى اليمن؟! إن محاولة تفريغ اليمن الجنوبي من هويته اليمنية إفلاس فكري وتاريخي كبير.
إن قادة الحراك في جنوب اليمن يعانون من فقدان هوية حاد وواضح، فهم اليوم وهم يحملون مشروعهم الانفصالي يرفعون علم جمهورية (اليمن) الديمقراطية الشعبية، يتوسطها نجمة لينين الماركسية الحمراء، ثم إنهم اختاروا لهم اسم الجنوب العربي، وهو الاسم الذي اختاره الاستعمار البريطاني لاتحاد سلطنات ومشيخات جنوب اليمن حتى يشطبوا الهوية اليمنية من شطرها الجنوبي، والاسم إذا ما ترجمناه حرفيا من المسمى الإنجليزي (South Arabia) فمعناه جنوب الجزيرة العربية، ومن المعروف أن المسمى اللاتيني للجزيرة العربية هو (Arabia) وهو نقل صوتي لكلمة (عربية)، إذن فتسمية الجنوب العربية هي أولا ترجمة خاطئة، وثانيا لمسمى يشير إلى منطقة جغرافية لا إلى بلد معين.
ودائما ما يكرر قادة الحراك في الجنوب مقولة استعادة دولتهم ما قبل العام 1990م، ولكن من الملاحظ أن تاريخ اليمن الجنوبي منذ الاستقلال سنة 1967 إلى إعادة تحقيق الوحدة اليمنية في العام 1990 لم يتسم بالاستقرار مطلقا، وكان عبارة عن متوالية انقسامات لا متناهية بدءا من انقسام مقاومة الاحتلال البريطاني بين جبهة تحرير جنوب اليمن والجبهة القومية للتحرير، واستطاعت الأخيرة الوصول للسلطة ثم ما لبث اليساريون في الجبهة القومية أن سيطروا على السلطة بقيادة سالم ربيع علي، وانقسم اليسارين بدورهم إلى يسار معتدل ويسار متطرف بقيادة عبدالفتاح إسماعيل يريد فرض الماركسية اللينينية بحذافيرها وتصدير الشيوعية للشطر الشمالي، ثم ما لبث أن تحول إلى صراع مناطقي بين حلف الضالع -لحج وحلف ابين- شبوة والذي تفجر في العام 1986 مسببا أنهاراً من الدماء، وقد ألقت كل تلك الأحداث السيئة بضلالها على الواقع المعيشي لسكان الجنوب.
ومع انهيار المنظومة الاشتراكية العالمية في بداية التسعينات سارع الجنوبيون للوحدة التي رأوها طوق نجاة، ذلك أن ميزانية دولة الجنوب كانت معتمدة بالأساس على المساعدات السوفييتية، والجنوبيون هم من أصروا على وحدة اندماجية، لقد كانت الوحدة اليمنية كالجنة ليس فقط للقيادة الجنوبية بل حتى لسكان الجنوب.
لماذا لا يرفع الحراك الجنوبي علم اتحاد الجنوب العربي مثلاً الذي كان معمولا به بين عامي 1962 و1967م بدلا عن علم النجمة الحمراء؟ إنه التخبط والهوية المفقدة التي بدأت باعتناق الفكر الماركسي ولا زالت تلقي بضلالها حتى اليوم. |
وعلى النقيض من ذلك، كان سكان الشطر الشمالي يعيشون فترة رخاء غير مسبوقة، بدأت بإنتاج النفط في العام 1986م في محافظة مأرب، وعززتها فتح أبواب العمل في المملكة العربية السعودية على مصراعيها للعمالة اليمنية الشمالية إبان الطفرة النفطية، قبل أن يطرد مليون منهم بسبب مواقف النظام اليمني من غزو الكويت، وأتت الوحدة، الوحدة كانت في نظر سكان الشطر الجنوبي طوق نجاة من من شمولية النظام الحاكم، وكانت في نظر سكان الشطر الشمالي مزيدا من التقدم والازدهار والقوة، لكن النتائج جاءت عكسية للطرفين، فالجنوب كان بحاجة إلى ميزانية كبيرة بعد الوحدة، وسكان الشمال فقدوا الرفاهية التي تمتعوا بها في الثمانينات، وجاءت حرب 1994 وتبعاتها التي يتحملها النظام في الشمال ولا أحد سواه.
مما سبق نستنتج أن سكان الشمال هم من ينبغي أن يتوقوا لوضعهم ما قبل الوحدة، ولكنهم ضحوا برفاهيتم ولا يزالوا من أجل الوحدة، ولكن ما نشاهده هو أن الحراك الجنوبي هو من يتقمص دور سكان الشمال.
وأتساءل هنا: لماذا لم يتبنَ الحراك اسم "اليمن الجنوبي" مثلا، أو جمهورية اليمن الديمقراطية التي أعلنها علي سالم البيض إبان حرب 1994م؟ لقد حافظ جنوب السودان الذي انفصل عن السودان على اسم "السودان" بالرغم من أنه اسم عربي. لماذا حتى لم يختاروا اسما آخرا كأوسان تيمناً بمملكة أوسان مثلاً التي ازهرت في جنوب اليمن وانفصلت عن مملكة حمير بالمناسبة.
لماذا لا يرفع الحراك الجنوبي علم اتحاد الجنوب العربي مثلاً الذي كان معمولا به بين عامي 1962 و1967م بدلا عن علم النجمة الحمراء؟ إنه التخبط والهوية المفقدة التي بدأت باعتناق الفكر الماركسي ولا زالت تلقي بضلالها حتى اليوم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.