شعار قسم مدونات

"تشظٍّ" عن كل هذا الخراب.. عنّا

blogs - كوباني حلب سورية

"لأني غريب

لأن العراق الحبيب

بعيد وأني هنا في اشتياق

إليه إليها أنادي: عراق

فيرجع لي الصدى

أحس بأني عبرت المدى

إلى عالمٍ من ردى لا يجيب

ندائي

وإما هززت الغصون

فما يتساقط غير الردى

حجار

حجار وما من ثمار

وحتى العيون

حجار وحتى الهواء الرطيب

حجار ينديه بعض الدم

حجار ندائي وصخر فمي

ورجلاي ريح تجوب القفار"

 

لم يكن أهل العرق بأشد غربة وغرابة عن عراقهم – على قرب وبعد – مما نحن عليه الآن إذ نشبت فينا ثورة أردناها زلفى للقرب وكُنّا القرابين لا نُبالي، فأُبعدنا عن البلاد/عنّا وراح ما دار في الأحقاب من ظلم وتهجير وضيم وتكالب يدورُ أجمعه في لحظتنا الثورية هذه، وكل نداءات الشباب الهدارة التي كانت طوفانًا من لهيب وغضب ارتدت بصمتٍ ودمٍ خيباتٍ وارتدوا بعزم عقولهم وهممهم حيارى، كأن المتنبي – حمّال الثأر – وقف على طلل آخر من معانيهم متنبئًا إذ يقول:

 

وَمَا أَنَا غَيرُ سَهْمٍ فِي هَوَاءٍ

يَعُودُ وَلَمْ يَجِد فِيهِ اِمتِسَاكا

فَأَيًّا شِئْتِ يَا طُرُقِي فَكُونِي

أَذَاةً أَوْ نَجَاةً أَوْ هَلَاكًا

 

كنَّا بالفعل جيلًا من سهامٍ ونزقٍ وحنق نفذ فأوجع عفنَ الطّاغية وأرعد العرش الذي ظنّ أصحابه أنّهم خالدون مخلدون أبدًا، كنّا الشرارة التي تهاوى أمامها كلُّ شيء وكلُّ أحد، كنّا – وما زلنا – ميزان الرجال إذ لم توافق أفعالهم أقوالهم، فضاحين كل دعي، محصين وممحصين كل زيف وانفصام،  وكنّا  – ثوَّارًا/متمرِّدين – أرقًا يقض المضاجع/مضاجع الصديق والعدوّ، كنّا نخاف منّا لمّا لبسنا لبوس العز والأنفة وقد شبّت الأرواح عن طوق الجسد محطّمةً الأغلال، حتى أُبعدنا عمّا ابتغينا؛ عن الثورة/عنّا/عن هاتيك البلاد، ولأنّه كُتب علينا أن نكون منبتّين عن مربّين ومرشدين مارسوا لذة قول الحق عند ملك ظالم واستشعروا عمليًّا معنى أن تكون الحرية هي المقصد الأول من مقاصد الشريعة، وتيقنوا أن الإصلاح السياسي هو السبيل إلى الإصلاح الديني .. لأننا فقدنا كلَّ هذا لم نُرشّد في طريقنا العتم المحجوب بأحراج من أفاعي الأسئلة، وسقطت حوامل من المجتمع فتهاوى الجمع وتشظّينا وكنّا كلّما هززنا الغصن تساقطَ علينا العدى غرابيبَ سود ومُلئت الكفُّ خيبةً وتساؤلا ما الذي يجري؟!

 

وكلّما انغرسنا أشجارًا في مهبّ الرياح المسلّطة لاستئصالنا تقلّصنا عددًا حتى أصبحنا قلّة تُثقّب أرواحهم إذ تذروهم الرياح، وتتلعثم خطاهم إذ يُطاعنون أكفّ الرّدى، ننادي ولا صدى وتزورُّ الحياة ساخرةً، فنجيبها أننا لم نملك ترف البدء وبدأنا، ولمّا ملكنا خيار الكفّ عما نحن فيه ما كففنا.

 

انقلب ظهر المِجنّ فأمسى طعن الخناجر يتسابق إلى ظهرنا الكليل؛ وما أدرنا الظهر ولن، وبلا سَنّ تحزّ أعناقنا سكيّنٌ جهيل تلبس ثوب المرشد حينا والناصح أحيانا، والصدر نهب لوابل من السهام وبيل، حتى إذا ما سرنا في المدن نتلمّس وجوهها ترياقًا لغصّةٍ تلهب سويد القلب ما اهتدينا لها لولا أنينٌ مقدّس يبدأ منها وينتهي من القلب المرتّل إذ نقبض على جمر بقائه، وما اهتدت لنا لولا شعثُ أروحنا الطّوافة عليها فدى لها وتهتّكُ أيدنا المخشوشنة.. فالثائر يعرف أهله.

 

نملك إلّا الرهان على أنّ مَن على الأرض ومَن فيهم الارض ولو غادروها لن يلينوا أكثر، وأنهم كلما انتفضوا أكثر استذكروا أنّنا جميعًا منهم ولهم ومن الارض ولها

وفي رحلة التّشظي تشعّبنا خمسةً من الأجيال في قفار التيه؛ جيل سَبَقَنَا أهلوه تمرُّدًا وتهجيرًا ووأدًا، جيلٍ حالت علينا أحوالٌ مُنع عنَّا أن نسميهم أو نتحدث عنهم إلا في عهد المدرسة الصباحي بالبراءة منهم ومن الصهيونية/حليفتهم كما يقول الطاغية، جيل أُبعد عن البلاد وما زال يحلم بها وينتسب إلى مجتمعها، المجتمع الذي أعاد تشكيل نفسه بعد خروجهم فما عاد يشبههم إلا قليلًا ولا عادوا يعرفونه دواخله. 

 

وجيلٌ في مناطق ترفرف عليها رايةٌ عيونها خضر يُصنع على عينها وطغيانها، وجيل تحت راية عيونُها حمرٌ من غَضَبٍ  وبكاء قهرٍ ودمٍ لا ينضب، وجيلٍ تحت رايات سود متشاكسة متصارعة تعجنه بتناقضاتها وصراعاتها، وجيلٍ أٌخرج إبان الثورة فغدا في عُرف الماكثين تحت الرايات "أهل الخارج" يتمزَّق بين انتمائه القريب ومزاودات المزاودين عليه ممَّن بقوا في الداخل أو ممَّن هُجِّروا من قبله، كل هذا والمجتمع يُعيد هيكلة نفسه بعيدًا عن ناظرهم جميعًا، ويمايزهم كأنهم ليسوا منه/كأنه ليس لهم، وتكمم الأفواه بصعوبة لكنها تسير نحو الرضوخ ونقاوم لكنَّا لا نملك أن ننتصر، لا نملك إلّا الرهان على أنّ مَن على الأرض ومَن فيهم الارض ولو غادروها لن يلينوا أكثر، وأنهم كلما انتفضوا أكثر استذكروا أنّنا جميعًا منهم ولهم ومن الارض ولها، وأن الثورة رحم بين أهلها مهما شطت بهم السبيل ونأت بهم الديار، وأنَّ التّشظّي آيلٌ إلى التئامٍ ما بعد أن جاب فينا القفار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.