شعار قسم مدونات

مسألة السلطة.. بين الديمقراطية والحاكم بأمر الله

blogs - ديمقراطية

أعادت الأحداث الكثيرة التي مر بها العالم العربي خلال السنوات الأخيرة في سياق ما عرف بالربيع العربي الحديث عن مفاهيم الديمقراطية والحرية وشكل الحكم وعما يسمى "الحاكم المتغلب"، وفيما هبت الشعوب تطالب بحريتها وتنادي بوضع أمر سياستها وقيادتها في يدها هي وحدها، انبرى البعض ليهاجم ذلك ويعتبره مخالفا لصميم الإسلام والدين، وسيرا في ركاب الغرب وتقاليده، فهل الديمقراطية تقليدا غربيا صرفا وهل الحكم الجبري أو الحاكم المتغلب هو النموذج الذي قدمه الإسلام للعالم؟

كثيرون في أوطاننا الإسلامية يتعاملون مع كثير من المفاهيم بخلفيات مسبقة تنطلق من نظرة مقولبة نمطية جاهزة لا تقبل النقاش ولا التغيير، فعندما يتم الحديث عن تطبيق الديمقراطية يسارع لأذهانهم النموذج الغربي في الحياة، والحقيقة أن الديمقراطية هي مفهوم واسع يمتد اجتماعيا: من الحرية الشخصية في المعتقد والأفكار والممارسة إلى اللباس والكلام والميولات، واقتصاديا من حرية التعامل والتملك والاتجار والإنتاج إلى تكافؤ الفرص في العمل وحرية المنافسة الاقتصادية وإبعاد يد أي سلطة أو قوة معيقة على السوق، وسياسيا له معنى واحدا: التداول السلمي على السلطة وفق عقد اجتماعي يحفظ حق الحاكم والمحكوم، ويمَكّن من فتح الباب لتنافس حر شريف بين جميع مكونات المجتمع من غير تمييز ولا إقصاء، للوصول للإمساك بمقاليد الأمور، يعرّف اليوم أنه الدستور.
 

بالرغم من أن ديمقراطية اليونان توجهت شيئا فشيئا نحو حكم النخبة تحت تأثير أراء كبار الفلاسفة مثل سقراط وتلميذه أفلاطون، الذين رأيا في العوام مجرد رعاء عاجز عن ممارسة الحكم، لكن لم يمنعهما هذا من رفض الدكتاتورية وتسلط الشخص

وما يهمنا من الديمقراطية ومربط الفرس عندنا ومحل الجدال هو الجانب السياسي منها، وبالضبط آلية الوصول للسلطة وممارستها، وهذا ما يرتسم في ذهن العديد ممن يريدون أن يكون نموذج الحكم عندنا قائم على الإرادة الشعبية، في حين يذهب تفكير البعض مباشرة لليبرالية الغربية بكل تفاصيلها وتبعاتها.

بداية إذا تتبعنا مسار الديمقراطية الغربية فقد بدأت أولى بذورها في اليونان القديمة، حين كانت مدنها التاريخية أثينا وأسبارتا وطروادة تمارس حكمها عبر الديمقراطية الشعبية، وحيث كانت مهد الديمقراطية أثينا تعرف الاجتماعات العامة "الأكليزيا" بصفة دورية وسط الساحات، ويتم مناقشة شتى الأمور التي لها علاقة مباشرة بحياة الناس، وللمواطنين الحق في قبول أو رفض ما يصدر من الحاكم.

وبالرغم من أن ديمقراطية اليونان توجهت شيئا فشيئا نحو حكم النخبة تحت تأثير أراء كبار الفلاسفة مثل سقراط وتلميذه أفلاطون، الذين رأيا في العوام مجرد رعاء عاجز عن ممارسة الحكم، لكن لم يمنعهما هذا من رفض الدكتاتورية وتسلط الشخص، كما قال أرسطو: "السلطة تنبع من الجماعة وليس من شخص الحاكم، وأنّ خير الحكومات هي الحكومة التي يسود فيها القانون"، ورغم هذا فمع مجيء حكام كرّسوا الإرادة الشعبية مثل: كليشنيس (Cleishenes)، ومن بعده بركليس(Perikles ) صاحب مقولة: "نحن نسمي نظام الحكم عندنا بالديمقراطية، لأن الإدارة في أيدي جماعة من الناس، لا في أيدي قلة منهم" ازدهرت الديمقراطية، ومعها ازدهرت اليونان وعرفت أفضل أيامها.

في الدولة الرومانية التي خلفت الفترة اليونانية، تعرف الحقبة الديمقراطية بأنها المرحلة الممتدة من 509 ق-م، حين تمكن مجلس الشيوخ بعد صراع كبير من عزل آخر الملوك الرومان وإنهاء الملكية، وحتى 27 ق-م تاريخ قيام الإمبراطورية، حين وافق مجلس الشيوخ على منح سلطات غير محدودة للإمبراطور أوكتافيان، وخلال هذه الفترة كانت السلطة تمارس عبر مجلس الشيوخ وقنصلان يتم انتخابهم من قبل عامة الشعب، وإن كان ذلك بداية حكرا على طبقة الباتريكيان (patricius) من الأرستقراطيين وملاك الأراضي وموظفي الدولة، لكن تطور عبر الزمن وتغيرت القوانين بعد الثورات العديدة للعامة، ليشمل الانتخاب طبقة المواطنين العاديين أو ما يسمى البليبس (plebeius).

كان مجلس الشيوخ الذي يضم ثلاثمائة عضو ويمارس السلطة؛ أبرز ميزة للعهد الجمهوري، فكان من مهامه تعيين الموظفين والقادة في المناصب المدنية والعسكرية المهمة وتوجيه الجيوش وإعلان الحروب والتسيير المالي والإشراف المباشر على انتخاب القنصلان ومحاسبتهم، وتمثّل هذه الفترة عهد ازدهار روما وتوسعها، ويجمع المؤرخون على أن الرومان كانوا على أحسن حال، وتمكنوا من إيجاد الحياة المثالية التي تضمن قدرا من العدالة للمواطنين، وجعلت روما تظهر كقوة سياسية وعسكرية واقتصادية وتمد نفوذها على محيطها، وهذا كله بفضل هذا النظام الديمقراطي المتبع.

لتبدأ مرحلة انحسار روما كقوة عظمى بعد زوال هذا النظام والتحول للعهد الإمبراطوري الاستبدادي، بداية من عهد يوليوس قيصر ثم أوكتافيان (أغسطس)، وباتت قوة روما وعنفوانها رهن بمزاجية الإمبراطور وكفاءته، ومر على حكمها أباطرة في غاية الجنون مثل كالجيولا وآخرون سفاحون ومجرمون مثل: نيرون، لتشهد نهاية القرن الثالث الميلادي انقسام الإمبراطورية لجزء غربي وآخر شرقي، ثم جاءت نهاية القسم الغربي سنة 476م، واستمر القسم الشرقي ضعيفا مترنحا حتى سقط تحت ضربات المسلمين.
 

إن الشعب استخدم كذريعة في الصراع بين السلطة الزمنية والروحية لتبرير التسلط، فعندما كانت الملكية هي من تعاني تنمر الكنيسة لاذت الملكية بالشرعية الشعبية، وعندما حدث العكس وتحولت الملكية للتسلط أيضا وظفت الكنيسة حجة الشرعية الشعبية

وفي الفترة الحديثة تعود جذور الديمقراطية والشرعية الشعبية لأواخر القرن الحادي عشر، حين بلغ الصراع أشده بين البابوية والإمبراطورية الجرمانية، عندما دعا الإمبراطور هنري الرابع إلى خلع البابا جريجوار السابع عبر مجمع ووفر، فرد البابا بخلع هنري وحرمانه من رحمة الكنيسة وجعل رعاياه في حل من الولاء له، وانتهت هذه الأزمة سريعا بتراجع هنري وتوبته، لكنها أثارت جدلا واسعا حول مصدر السيادة، وحاول الفريقان أن يحتكما للشعب، باعتبار رضاه هو الفيصل، وانتهي إلى أنه هو مصدر الشرعية لكن هل سيادته هذه قابلة للتنازل أم لا؟ وذهب أنصار الملك استنادا لوثيقة (Lex Regia) الرومانية إلى أن الشعب مادام اختار ملكا عليه فقد تنازل له عن سلطته ولا يستطيع استردادها، وقام الكاهن "مانيجولد" بالرد على هذا بالقول: "إن الشعب هو من يختار من ينصب عليه وفق ميثاق معين، وإذا خرق الملك هذا الميثاق الذي انتخب وفقا له، فهذا يعتبر حنثا يحل الشعب من واجب الطاعة والإخلاص".

ثم جاء توما الأكويني (1225-1274) ليضع مزيدا من التنظير لمفهوم السلطة والسيادة، ويميز بين مبدأ السلطة وممارستها فقال: "السلطة حق إلهي ينظمها قانون البشر"، ووفق رأيه "المجتمع والدولة قد وجدا للفرد، ولم يوجد الفرد للمجتمع والدولة، والسيادة تأتي من عند الله وهي حق للشعب؛ ولكن الشعب كثير العدد، مشتت، متقلب، جاهل، وهو لذلك عاجز أن يمارس حقوق السيادة بنفسه وبحكمة؛ ولهذا فانه يكل هذه السيادة إلى أمير أو زعيم آخر، وتوكيل الشعب من ينوب عنه على هذا النحو يمكن إلغاؤه على الدوام، ولا يحتفظ الأمير بسلطة التشريع إلا من حيث هو ممثل لإرادة الشعب، ويمكن أن ينيب الشعب عنه في ممارسة سيادته عدداً كبيراً من الناس أو عدداً قليلاً منهم أو فرداً واحداً"، والملاحظ أن الشعب استخدم كذريعة في الصراع بين السلطة الزمنية والروحية لتبرير التسلط، فعندما كانت الملكية هي من تعاني تنمر الكنيسة لاذت الملكية بالشرعية الشعبية، وعندما حدث العكس وتحولت الملكية للتسلط أيضا وظفت الكنيسة حجة الشرعية الشعبية.

يتبع..

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان