إنَّ ترك الألسنة تُلقي التهم جزافًا دون تثبتِ أو تبينٍ أو دليل، يفتح المجال فسيحًا أمام كلِّ من شاء أن يقول ما شاء في أيِّ وقتٍ شاء، ثم يمضي بعد ذلك آمنًا مطمئنًا؛ فتصبح الدول وتمسي وإذا أعراضها مجرحة وسمعتها ملوثة، يصبح كلُّ فردٍ فيها متهم أو مهدد بالاتهام. هذه الحالةٌ من الغبش الفكري والتخوين والإقصاء لا يمكن القبول بها مهما كانت دواعي انتشارها.
في ذات السياق حملت الساعات الأولى من الأربعاء الماضي واحدةً من أغرب هذه المشاهد إثر قرصنةٍ -هي الأولى من نوعها- لوكالة الأنباء القطرية (قنا)، فانبرت وسائل إعلامية في بث أخبار عارية تمامًا عن الصحة (مُفبركة)، وقد غامرت هذه الوسائل بمصداقيتها الإعلامية لتحظى بسبق النشر. غفلت -وربما تغافلت- هذه الوسائل عن الاحترافية في تناول الخبر والتثبت من صحته، وكان يجدر بها احترام جمهورها حتى لا تسقط من أعينهم سقوط مكارثي.
إن الإعلام الذي أضرم النيران في الأخبار المفبركة لا يقل في خطره من الآلة الإعلامية التي استند عليها مكارثي في بث الأفكار المريضة في نفوس الأمريكين وجنَّد لها أقلامًا وألسنةً تدافع عنها وتنافح |
كان جوزيف مكارثي (1908 – 1957) نائبًا جمهوريًا في الكونجرس الأمريكي، واستغل الحرب الباردة كذريعة لنشر حالة من الفوضى الممنهجة في الولايات المتحدة الأمريكية، عزف مكارثي على وتر الحفاظ على أمريكا من أذناب الشيوعية ومناصريها في الداخل الأمريكي، وشدّد على ضرورة إنقاذ الولايات المتحدة الأمريكية من براثن أنصار البلاشفة. قاد مكارثي حملة شعواء من التخويف والتخوين والتحريض؛ فتمخض عنها تبني الأمريكيين لفكر مكارثي، وفقد الكثيرون وظائفهم جراء الاتهامات التي طالتهم. كانت الفترة (1950 – 1954) عصيبة وحالكة على كلِّ من لا تتوافق أفكاره وأطروحاته مع قناعات مكارثي، ومما زاد الطين بِلة انسياق الأمريكيين معصوبي الأعين للشعارات التي نمقها مكارثي وانطلت عليهم دون نقدها.
ولأنه لابد لليل أن ينجلي؛ فقد أفاق الأمريكيون من سباتهم الذي استمر لسنواتٍ أربع أسلموا فيها القياد لمكارثي، اكتشف الأمريكيون ألاعيب مكارثي وشعروا بقوة صفعة مكارثي لهم؛ فقرروا أن يعيدوها له صاعًا بصاعين، وفقد مصداقيته المزيفة التي تغنى بها طيلة الأعوام الأربعة. تم تعنيف مكارثي في مجلس الشيوخ الأمريكي وعزل من منصبه، وانزوت عنه الأضواء؛ فأدمن المخدرات حتى مماته. لم يكن ذلك كافيًا ليشفي صدور الأمريكيين؛ فأمعنوا في وصم سيرة مكارثي بالعار الطويل، وذلك بإدخال مصطلح المكارثية McCarthyism لأدبيات السياسة إشارةً للسلوكيات القائمة على توجيه وتوزيع الاتهامات بالتآمر والخيانة والعِمالة دون تقديم ما يسوِّغ هذه الاتهامات.
بالعودة للمشهد القطري؛ فإن الإعلام الذي أضرم النيران في الأخبار المفبركة لا يقل في خطره من الآلة الإعلامية التي استند عليها مكارثي في بث الأفكار المريضة في نفوس الأمريكين وجنَّد لها أقلامًا وألسنةً تدافع عنها وتنافح. كان بمقدور هذا الإعلام أن يتريث قليلاً ليقف على صحة ما ينقله؛ حفاظًا على المصداقية في الطرح، وبغية توخي الموضوعية في التناول. المصداقية الإعلامية قد كشفت مغالطات مكارثي وأسهمت في نشر الحقائق الغائبة، فظهر إدوارد مارو الإعلامي الذي مرغ أنف مكارثي في الوحل والطين، وسيكون هذا مصير الأفاقين في كل وقتٍ وحين.
التبين من صدق الخبر ومصداقية ناقليه دينٌ ندين به، ولولا التثبت من الأمور قبل التفاعل معها لسُفِكت دماء الأبرياء بغير جريرة ارتكبوها |
الإعلام المغرض في طوقه أن يخدع الناس طويلاً، لكنه لا يمكنه خداع الناس للأبد. ولكلِّ من يرى المشهد قاتِمًا أذكره بقوله تعالى "لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ" فقد كان من حسنات هذه الأخبار المفبركة تمايز الصف، وكشف منهجية بعض الوسائل الإعلامية منفذةً لما أسميناه (المكارثية العربية) التي يطيب لها الدندنة على وتر الوقيعة والقطيعة بين أبناء الأمة العربية، وليحذر الناس شر هذه المنابر التي فقدت الكثير من مصداقيتها واهتزت صورتها الذهنية لدىّ الجمهور العربي. وللحفاظ على الأمة العربية؛ أقولها للجميع: (فَتَبَيَّنُوا).
التبين من صدق الخبر ومصداقية ناقليه دينٌ ندين به، ولولا التثبت من الأمور قبل التفاعل معها لسُفِكت دماء الأبرياء بغير جريرة ارتكبوها. التناول المأزوم الأحداث يمثل ثقافةً مأزومة، ويحمل دلالات لا حصر لها عن مدى التحيز الذي ينتهجه البعض. كان الوليد بن عقبة بن أبي معيط قد ظن في بني المصطلق من خزاعة أنهم خرجوا لقتاله لمنع الزكاة؛ فمضى على جناح السرعة وقال للمصطفى: منع بنو المصطلق الزكاة وكادوا يقتلونني!! هنا تتجلى الحكمة النبوية، فلم تصدر الأوامر بالانتقام من بني المصطلق، ولم تُطلق الشعارات الرنانة والعبارات الطنانة لإدانتهم وإعلان شقهم لعصا الطاعة، وأنهم أضحوا يغردون خارج السرب. لم يحدث من ذلك أيّ شيء، وإنما دعا النبي الصحابة للتثبت من حقيقة الأمر والوقوف على واقعه؛ فأرسل خالد بن الوليد ليتحقق من نبأ بني المصطلق، وكانت النتيجة أن ما جاء به الوليد بن عقبة لا أساس له من الصحة، وإنما هو مجرد قراءة غير صحيحة لمجريات الأحداث.
هل نتثبت بعد اليوم من كل ما نسمع؟! أم أننا قطعنا على أنفسنا عهدًا بأن نسمح للشائعات أن تتلاعب بنا تلاعب الريح بالريشة البائسة!! آن لنا أن نقف مع أنفسنا بصدق ونراجع مواقفنا، ونمتلك من الشجاعة ما نتثبت به مما يدور حولنا قبل أن ننزلق في مهاوي الهلكة والضياع. حفظ الله أمتنا العربية، وحفظ الله أمن بلادنا من الفتن.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.