ولست أجازف إنْ قلت إنّ هذا ينطبق على مسيرة الجهات والمنظمات والمؤسسات. وقبل أن تنهال التعليقات بأنني أمجّد سلطة الأفراد وأدعو إلى الدكتاتوريات، أستدرك بأنني أعني الفرد الذي يحسن سياسة الجماعة وقيادة الدفّة بالاتجاه الصحيح، ومن هنا أدلف إلى ما أريد. فالواضح في ثورتنا السورية أننا لا نعيش أزمة قائد من حيث العدد، بل لعل الشعب السوري كله يعيش أنه قائد، بل القائد. ما دام الأمر كذلك فأين المشكلة؟ أقول: لن أقع فيما أحذّر منه، فأدّعي أن معي عصا موسى عليه السلام، وأتشبّع بما اختلف فيه أهل العلم والنظر أتكون القيادة فطرة أم تُكتسب أم لابد فيها من الاستعداد الفطري والاكتساب العملي؟ لكنه رأي أراه أعلنه عارياً دون خوف.
أزمة قائد أم قدوة!
ما لم نضع للطالب قدوةً فإنه سيخرج لنا يوماً بقدوةٍ يُسلمُه قِيادَ نفسه لا ندري أين يأخذه، وأخطر من ذلك الفتيات، فهذه تعجبها الممثلة فلانة وتلك تعجبها الراقصة فلانة أو غيرها. |
أول ما يجب الوقوف عنده هو أن مفهوم (قائد) أو (قدوة) فيه جانب شرعيّ يجب استذكاره دائماً، وهو (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)؛ وهذا ما يجب أن نبقى منه على ذُكر ما حَيِينا. ونجد أكثر الناس في هذه بين مُفرِط ومُفرِّط؛ فإما أن ينبذ الدِّين وراءه ظهرياً، وهذا يكون الكلام فيه من وجه آخر ليس هذا موضعه ويتكلم فيه أهل التخصص.
وإما أن يقف عند الاقتداء بالعموم دون فهم تفاصيله، فالوقوف بجمود عند الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ليس صائباً تماماً، ولا يخرج عن التورّع البارد، بل يخالف نصّ كلامه عليه الصلاة والسلام في تأبير النخل: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، ويشرحه أكثر تبويب النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم بقوله: (باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكرَه صلَّى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي).
وهنا أتجرأُ أكثر فأطرقُ أبواب المعلّمين والمسؤولين لأزعجَ أسماعَهم بسؤال: أي قدوة أو قائد ذاك الذي تربطون به أبناءنا وإخواننا؟ فالنبيّ صلى الله عليه وسلّم قدوتنا في كل حياته، لكن في درس الجغرافيا مثلاً بمن نربط الطالب؟ وفي درس العلوم بمن؟ وفي الرياضيات بمن؟ وفي الفلك بمن؟ وفي السياسة بمن؟ وفي الإدارة والتدوين بمن؟ وفي درس اللغة العربية بمن نعرّفه في النحو؟ وكم شاعراً يعرف منا في الأدب؟ وكم قصيدةً يحفظ بين أيدينا؟ والطالبُ متجهٌ حتماً في واحد من هذه الاتجاهات مستقبلاً.
وأكمل جرأتي فأَنفِي عن أكثر المعلمين اليومَ تقديمهم للطلاب نماذجَ يقتدون بها في كل ما ذكرت، مع أن أمتنا أنجبت الكثيرين من الأعلام في كل بابة من أبواب العلوم وفي كل فن من الفنون. فإن واجهتَ المعلمين بهذا لبسوا درع الالتزام بالمقررات الدراسية وامتثال الأوامر الإدارية ونحوها من نسج العنكبوت في رؤوس الدروايش، يسترون بها عورات الضعف والكسل؛ إلا من رحم الله. لم يكن عبثاً ما قيل قديماً: سِيَـرُ الرجال مصانع الأبطال؛ ويا قومِ! ما لم نضع للطالب قدوةً فإنه سيخرج لنا يوماً بقدوةٍ يُسلمُه قِيادَ نفسه لا ندري أين يأخذه، وأخطر من ذلك الفتيات، فهذه تعجبها الممثلة فلانة وتلك تعجبها الراقصة فلانة أو المذيعة أو .. أو …
أَنفِي عن أكثر المعلمين اليومَ تقديمهم للطلاب نماذجَ يقتدون بها، مع أن أمتنا أنجبت الكثيرين من الأعلام في كل بابة من أبواب العلوم وفي كل فن من الفنون. |
والمشكلة الأكبر أن الطالب أو الطالبة يأخذ ما يأخذه – عمن يقتدي به رغماً عنا – كلَّ شيء، فإن أعجبه (تشي غفارا) لأنه قاوَمَ وناضلَ فيبحث قبل أن يتزيَّـى بزيّه أو يسمّي محلّه وربما ولده باسمه ليعرف معتقده فيأخذَ ويَدَع، ومَن يعجبه (ميسي) فلن يدقق في مواقفه مع الصهاينة وتبرعه لإسرائيل، ومن تعجبها ( ..) فلا تتوقف….، ومَن يأخذها منظر (الفنانة فلانة) قد تتلذذ بتجربة غرام مثل تجربتها وإن انتهت بالهروب من أهلها لتلحق بحبيبها. ومن يسمع أو يقرأ نصيحة بمتابعة الكاتب الفلاني أو مسلسل كذا من (المعلّم فلان) فأكثر الحال أن يحمل عنه بالجملة لا بالمفرّق، فيحمل مع السمين الكثير من الغثّ. وقل من هذه الويلات أكثر وأكثر.
أولادنا أمانة في رقابنا – نحن المعلمون والأهالي – وقلوبهم وعقولهم بين أيدينا، وما لم نملأها بما يحب الله ويرضاه وبما يناسب هويتنا فإننا نقدّمها مفتوحةً خصبةً لأول زارعٍ من خارج حدود عوائلنا أو مدارسنا، فكيف بمن أدخل الدبَّ كرمَه، وتركَه – إنْ في البيت وإنْ في المدرسة وإنْ في النادي أو … – يزرع في أرضه على هواه، أو أن يزرع الشاب والشابة ما يشتهي؛ وليس كل ما يزرعون يُعجب الزُّرّاع ويَغيظ الكفار!!
إننا حقاً نعيش كباراً وصغاراً أزمة (قدوة)، وليس تحاملاً على المعلمين أن ألقيَ بأكبر الثقل عليهم، لكنهم حقاً خير من ينهض بهذه المسؤولية إن فعلوا، وأكبر المجرمين إن لم يفعلوا؛ فما زلنا جميعاً نحتفظ في أذهاننا بذكريات للمعلّم المبدع فلان أو المعلّمة المربية فلانة من بين عشرات المعلمين الذي مررنا بهم في دراستنا، فقليل منهم من يترك بصمةً في حياتنا قد تكون سبباً في اختيارنا تخصصنا أو مهنتنا في المستقبل.
ما زلنا جميعاً نحتفظ في أذهاننا بذكريات للمعلّم المبدع فلان أو المعلّمة المربية فلانة من بين عشرات المعلمين الذين مررنا بهم في دراستنا، فقليل منهم من يترك بصمةً في حياتنا. |
وهذا العبء لا يخفف منه أو يمحوه كثرة الأعباء المادية والاجتماعية والأمنية على عاتق المعلّم، فهي في صلب المهمة التي اختارها بنفسه لتكون باب رزقه ومنبر رسالته؛ والموفَّق مَن وفّقه الله. وقد يعين المعلّمَ أن يستذكر دائماً أنه عليه أن يزرع، وليس عليه أن يحصد، فقد يكون حصادُ زرعٍ طيبٍ تزرعه عندما تصل داراً تكون أحوجَ ما تكون لمن يدعو لك، فكيف بك بمن يدعو ويعمل ويكون لك مثل كل عمله وأجره؟ ولا تستكثر الطلبة، فلو فتحت سير الأعلام فقد لا يزيد أسماء تلامذته عن سطرين، ولعل الله يجعل فيهم واحداً يُيقي أثرك الطيب بعدك سنوات وسنوات.
رويدك رويدك؛ فأنا سألت غير واحد من طلابي: ماذا تريد أن تصبح مستقبلاً؟ فأجاب: معلماً ناجحاً مثلك أستاذ!! ومثل ذلك مع ولدي في البيت فقال: نعم الأب!! وزوجتي سألت ابنتنا فقالت: ليتني أصبح مثلك فأنتِ والله نِعم الأم، وإن قُدّر لي وبنيت عشّاً فعلى مثل قواعدكما!! وارأساه وارأساه! ما أجمل أن ننظر في المرآة يومياً، لكن ليس مرآة غرفة النوم المزوِّرة، بل مرآة الدِّين بالنقل الصريح والعقل الصحيح، وأن نزن أنفسنا بميزان العدل لا الهوى، فنعرف أنفسنا حقاً.