شاهدتُ مقطعا مرئيا مدته عشرون دقيقة لأستاذتي الدكتورة هبة رؤف عزت بعنوان "لماذا نتعلم؟" وجدت فيه من حسن الكلام وحكيمه وجميله ما دفعني للكتابة مفكرا مع الأحباب عن جواب لنفس السؤال، وحين نسأل باستخدام "لماذا" فنحن نسأل عن أحد أمرين، أولهما: الدافع، والثاني: الغاية.
إن الإنسان لا يقدم على فعل إلا وقد دفعه إليه دافع سابق، أو أنه يبتغي من وراء فعله غاية لاحقة، وما من فعل يفعله الإنسان مختارا مريدا إلا ويتضمن أحد هذين الأمرين، حتى اللعب واللهو والعبث فإن مللا يصيب الإنسان فيفكر في أنه يريد طرد هذا الهم عن نفسه فمثل هذا اللعب واللهو، فاللعب إذن فعل غائي، والإنسان مخلوق يبحث عن غاية فإذا فقد أمر ما غايته فإنه يكون قد فقد معنى وجوده ومبرر استمراره.
وحين نتكلم عن التعليم فإننا نرى أن هذا فعل يمارسه الناس بمختلف جنسياتهم وأجناسهم وشعوبهم وقبائلهم وألوانهم وأديانهم، وقد دفعهم إليه دافع ولهم من وراءه غاية بالتأكيد، فما الذي يدفع الناس إلى التعلم ويحملهم عليه؟ وما الذي يظن الناس أنهم سيقدرون على تحقيقه أو أنهم يريدون الوصول إليه من خلال التعلم والتعليم؟ هذا ما نحاول التفكير فيه.
وعند محاولة الإجابة عن هذا السؤال فإن هناك طريقتان، الأولى واقعية تتسائل: لماذا يتعلم الناس بالفعل؟ والثانية تنظيرية تبحث لماذا ينبغي أن يتعلم الناس؟ وبين الواقع والمأمول أفكار وأحلام ومسافات.
أما عن الواقع فالناس يتعلمون غالبا طلبا للترقي المادي والطبقي، فالمتعلمون يحصلون على وظائف أفضل ويتم معاملتهم اجتماعيا في أكثر البلاد والثقافات حول العالم بشكل أفضل من الذي يتم معاملة غير المتعلمين به، فالتعلم سبيل لأن تكون الحياة أكثر رفاهية وسعادة، بخصوص المسلم فلا بأس هنا من الاستعانة على مشقات التعليم بتذكر بعض آيات القرآن الكريم والمشهور من حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآمر بالتعلم والحاث عليه، لكن الهدف الحقيقي الذي يحمل أكثر الناس على الالتحاق بالمدارس والجامعات وتحصيل المعارف واجتياز الامتحانات وجمع الشهادات ليس هو المتعة بالتعليم وإعادة اكتشاف النفس الإنسانية من خلاله وأن العلم طريق رضا الله تعالى والجنة، بل الهدف هو الحصول على وظائف مناسبة بمرتبات جيدة تغطي الاحتياجات المادية المتزايدة، بالإضافة إلى الوجاهة الاجتماعية التي يحوزها المتعلم الحاصل على شهادة جامعية، ولو أضيف إليها شهادات متقدمة لكان أوجه وأفضل، ولربما ازدادت فرص الحصول على وظيفة أفضل في الوطن أو خارجه، هذا هو واقع السبب الذي لأجله يتعلم الناس غالبا.
أما المثال والنموذج الذي ينبغي أن يكون لأجله التعلم والتعليم فيمكن حصره في كلمتين، أولا: أن تكون إنسانا، وثانيا: أن تكون مسلما.
إننا نشرح في دورة ما لا يسع المسلم جهله بمدرسة شيخ العمود منذ خمس سنوات أن الإنسان لا يكون إنسانا إلا بالعلم، وأن المسلم لا يكون مسلما إلا بالعلم، ونبدأ بذكر الإنسان قبل ذكر المسلم لأننا ينبغي أن نتعلم ما يكون به الإنسان إنسانا قبل أن نتعلم ما يكون به المسلم مسلما، وهذه العبارة الأخيرة لها قصة نشرحها لاحقا.
لا يكون الإنسان إنسانا إلا بالعلم فإن الله تعالى خلق الإنسان باحثا متأملا مفكرا شغوفا، ونرى الأطفال كثيرو الأسئلة بشكل لا يصدق وما ذلك إلا لصدق فطرتهم ونقاء إنسانيتهم قبل أن يقهرهم الكبار بمنعهم من السؤال والتفكير وبإجبارهم على أن يكون تفكيرهم في إطار لا يتجاوزونه هو الإطار التقليدي الذي اعتاده الكبار للتفكير في الأمور فيقل الإبداع ويذبل كلما تقدم الإنسان في العمل، وهنا فيديو مؤثر حول هذا المعنى أقترح عليكم مشاهدته!
فينبغي أن يكون الهدف الأول من التعلم هو أن نروي الظمأ الإنساني للتعلم والمعرفة، ولنكون أفضل إنسانيا فنتواضع للخلق ونرحمهم ونقدر ضعفهم ونقوم على حوائجهم فالعالم الذي لا يخدم الناس بعلمه ولا يشارك في تخفيف أوجاعهم أو صناعة مستقبل أفضل لهم ولنفسه لا يستحق شرف الانتساب للعلم وأهله.
عندما نجيب عن سؤال لماذا نتعلم؟ فإننا نقول: نتعلم لأن طلب العلم ضرورة بشرية وفريضة شرعية، فالإنسان بدون علم ليس إنسانا، والمسلم بدون علم ليس مسلما. |
أما الهدف الآخر من التعلم والتعليم فهو السير على درب الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى ليعلموا الناس أشرف العلم وهو العلم بالله، قال الله: " فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ " ونحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر الناس بالتعلم وحث عليه في كثير من أحاديثه ومنها قوله: "إن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر وحتى الطيور في أعشاشها" وقوله صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم"، وقد فضل الله تعالى الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات، وبين أنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فالمسلم الحق يعلم أنه لن يستطيع السير إلى الله تعالى ولن يصل إليه إلا بالعلم، وقد أمر الله تعالى العلماء أن يكونوا ربانيين بعلمهم فقال سبحانه: "وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ " ، فإن العالم الذي لا يدفعه العلم إلى خشية الله تعالى والانكسار له والتأدب معه سبحانه لا يستحق شرف الانتساب إلى العلم وأهله.
فالمسلم إذن عندما يتعلم فإنه يكون مدفوعا بالحاجة البشرية الواقعية إلى التعلم طلبا لحياة أفضل في الدنيا وهذا أمر مفهوم ومقبول، لكنه كذلك ينبغي أن يتعلم طلبا لارتقاء روحه وقلبه، وانضباط عقله وجوارحه، ومعرفته لنفسه ولربه، فهو حريص بتعلمه على إنسانيته ودينه، لذلك فعندما نجيب عن سؤال لماذا نتعلم؟ فإننا نقول: نتعلم لأن طلب العلم ضرورة بشرية وفريضة شرعية، فالإنسان بدون علم ليس إنسانا، والمسلم بدون علم ليس مسلما.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.