شعار قسم مدونات

العدل الإلهيّ

مونات - سماء

لا تكاد تجد ديانة أو منهج فكري لم يُخضع مسألة " العدل الإلهي" للتفكير والنقاش، وكانت ولا زالت من أكثر المواضيع التي انشغل بها الوعي الديني تعقيدا، تنوّعت التفسيرات الفلسفيّة وانقسمت المدارس الفكريّة حولها، فترى من يرمي عدل الله في مخلوقاته وكونه بالشكوك والأسئلة، يسددون من براهينهم الكلاميّة ما يحسبونه الضربة القاضية لكلّ مخالف، ويلقون بأسئلة عمرها آلاف السنين لم ولن يجيبها إلّا من حاز العلم المطلق و"لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا"!، وأمثلة من واقع البشر ونظام الكون تنتهي بلماذا؟ وما الحكمة؟ قبل أن تُتبعها بأين العدل في ذلك؟

لا أظن أنّ واحدا منا امتلك فطرةً سليمةً تأبى الشر وتتوسم الخير في قدر الله وخَلْقه قد سَلِم من شراسة هذه الأسئلة وإلحاحها، صرّح بها أو أضمرها، أخفت صوتَه أو رفعه فقد وردت لخاطره حتما، لماذا يُصاب هذا الصغير بداءٍ عزّ دواؤه؟ وشيخ قضى عمره زاهدا عابدا مذاكرا لكتاب الله لماذا يُلقى به في مأوىً للعجزة؟ هذه المرأة الملتزمة بأوامره وأحكامه بكته ليل نهار ليهبّ لها غلاما تملأ به خواء فؤادها ولم يهب، وأخرى بلا دين ولا تديّن تنعم بالمال والبنين، ستجد ظالما تتسع أملاكه وتتضاعف ثرواته، ومرتشيا لا يلبث في منصبه شيئا حتى يرتقي، وطاغية مجرم يُحتفى به دوليا وتُعلّق له النياشين.. فأين عدل الله من ذلك ؟

هبة الله يمنحها من يشاء ويستردها متى شاء فالوالدين لا يمتلكون أطفالهم إلّا مجازا وملكيتهم الحقيقيّة لمن خلقهم يتصرّف بهما كيفما اقتضت حكمته وإرادته.

بدايةً، من غير المنطقي أن تقيّم فيلما مثلا من نهايته فقط فتحكم أنّه مُبدَع أو سيء، أو كتابا من خاتمته، فقولنا أنّ ذاك الشيخ ذاكر عابد والعدل يقتضي حسن الخاتمة له هو كمن أتى على مسرحية بفصلها الأخير فقيّمها كاملة. حقيقةً إنّ ما يظهر لواحدنا من حياة الآخر ليس أكثر من قمة الجبل الجليديّ وما خفي تحت المحيط أبلى وأعظم، ولكي تصدر أحكامك بأنّ هذا الشخص قد اتسعت له مظلة العدل أم لا ينبغي عليك تتبّع حياته كاملة بما فيها نواياه وخطراته وسكناته، وهو ما لا يتسنى لأحد إلّا للعليم الخبير.

ولو فرضنا جدلا أنّ حياته بطولها وعرضها استوجبت نهايةً غير التي كانت، كمن خرج صغيرا مجاهدا في سبيل الله ووقع أسيرا في يد عدوه وقضى على ذلك الحال مثلا، وجب هنا أن نتذكّر ومن ثم نسلّم بحقيقة أنّ الدنيا ليست "دار عدل" ما كانت ولن تكون، هي دار التواء لا استواء دار ابتلاء لا جزاء، فالموت للمسلم هو بداية الرواية وليس النهاية أبدا، وحكمة هذا كله سيعلمها في نهاية المطاف بين يدي العدل المطلق.

ومن الضروري هنا أن نقرّ بأن الشرور والخطوب أنواعا متفرقة، فلا يحقّ مثلا لسائلٍ أن يسأل أين عدل الله من أطفال المجاعات، أو من الحروب والفقر أو حتى ذلك المجرم والمرتشي والشيخ الذي ألقي في مأوى العجزة! فالطاغية هناك من "فرعنه" والمرتشي من رشاه، والشيخ من تخلّى عنه وظلمه، والحروب من أشعلها وجنى من ورائها الكثير كما أنّه هناك من تخاذل عن نصرة ضحاياها، وهناك من اكتنز ثروات الأرض وكدّس المال فوق المال وتعالت قصوره وبنيانه وترك مليون ونصف مليون طفل يموتون سنويا جوعى. يتناسون أنّ وجودنا هنا ليس إلّا تكليفا وابتلاءً، بكل ما يندرج تحت معنى التكليف من تحريم الظلم والتصدي له ورفعه عمن ابتُلي به من ثم يأتيك آخرون يصرخون أين عدل الله؟ وما شأن عدله بظلمهم، بل ما معنى وجودنا أساسا إن لم يكن هذا!

وعندما يسأل ذو عقل ما الحكمة من مرض هذا الرضيع، أو أين العدل في أن يهب الله الذرية لزوجين ويمنعها عن آخرين، يغفل عن أنّه سبحانه قد أخبرنا منذ البداية بأنّ الأطفال هم هبةٌ منه سبحانه "يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ"، هبة الله يمنحها من يشاء ويستردها متى شاء فالوالدين لا يمتلكون أطفالهم إلّا مجازا وملكيتهم الحقيقيّة لمن خلقهم يتصرّف بهما كيفما اقتضت حكمته وإرادته، فهو وحده العالم بما يصلحهم وآباءهم، فله سبحانه ما أعطى وله ما أخذ.

العقل البشري مهما بلغ واتسعت مداركه واكتنز من علوم الدين والدنيا، يعجز عن رسم صورة كاملة للعدل المنشود، فيقول إذا وقعت هذه الأمور فهي من العدل وكل ما يقع خلافها هو ظلم، لا يمكن!

ومما ترتاح له الانفس وتسكن في هذا المجال، فكرة د. مصطفى محمود في أناشيد الإثم والبراءة عندما قال: "كلنا نخرج من الدنيا بحظوظ متقاربة برغم ما يبدو في الظاهر من بعد الفوارق. و برغم غنى الأغنياء و فقر الفقراء فمحصولهم النهائي من السعادة و الشقاء الدنيوي متقارب".

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن العقل البشري مهما بلغ واتسعت مداركه واكتنز من علوم الدين والدنيا، يعجز عن رسم صورة كاملة للعدل المنشود، فيقول إذا وقعت هذه الأمور فهي من العدل وكل ما يقع خلافها هو ظلم، لا يمكن! لسنا نحن بأفهامنا وإدراكنا القاصر من نرسم لله طريق العدل والحكمة، فكم من جللٍ قد وقع انطفأت به قلوب وجزعت له أرواح وأحزان استقبلها أصحابها بالسخط والاستنكار فشاءت حكمته ورحمته أن تلتفت اليك الأيام وتعود لتخبرك كم كان إلهك رحيما بك حينما شاء أن يكون ذاك، وكم من مصيبةٍ ما وقعت إلّا لتنقذك من أخرى لو كانت لما وقفت بعدها، وكم من معنىً جميل وإحساسٍ رقيق ما كنت لتشعر به لو لم تتذوّق ضده، فالصحة لا يعرفها حقّا إلّا من خبر المرض، والجمال لا يستهوي إلّا من عرف القبح!

أخيرا، قد وقع في فخ إبليسه كلّ من حاول أن يحيط بعدل الله كلّه أو يطلب فهمه كاملا تامّا، مهما قاربنا الفهم سيبقى هناك ما لا يُفهم ويحتّم علينا أن نسلّم ونستسلم إلى حقيقة أنّ الأديان والفلسفات لن تشبع عطش معرفتنا عقليا، وهذا اختبارا آخر لقوة إيماننا.. هل نؤمن أنّ الله عدالته مطلقة لأننا نلمس ذلك ونجد أثره، أم لأنّ الله قد أخبرنا بذلك وانتهى؟ الله هو العدل المطلق، الرحمة المطلقة، الحكمة المطلقة، نؤمن بذلك كما نؤمن أنه الرزاق الغفور الكريم بكافة أسمائه وصفاته، نعتقد بها ونعلّق عليها آمالنا ونبث إليها آلامنا لا لشيء إلّا لأنّ الله أخبرنا بذلك في محكم تنزيله ووحيه إلى نبيه الكريم فهمنا حكمته أم خفيت علينا، أدركنا عدله أم قصرت عقولنا عن إدراكه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.